فجر سنة جديدة طلّ علينا، يحمل في طيّاته مستقبلا جديدا ممتلئا بأحداث ومواقف تجري في ميادين هذه الفانية. سنة سارة خيرّة للبعض، يولد فيها مواليد جدد ويرتقي أناس على سلم الأعمال، ينجح كثيرون ويتخرّجون من جامعاتهم، يسافرون وتفتح أمامهم أفق جديدة، يكلّلهم تاج الصحة وتغمر السعادة جنبات بيوتهم وعائلاتهم وأحبّائهم؛ لكنّها للأسف لا تخلو للبعض الآخر من الكدر والحزن على فراق حبيب أو قريب، خسارة عمل أو وعكة صحيّة. هذه جدليّة الحياة وليست على صعيد الفرد فقط بل تنطبق على الشعوب والدول والأمم.
اللاّفت في كلّ عام كلام المنجّمين وتوقّعاتهم المنتشرة في وسائل الإعلام المسموعة منها والمقروءة، التي تتحدّث عن مصير دول وشعوب، مستقبل أفراد وجماعات، فيتهافت الناس لسماعهم ومعرفة توقّعاتهم إمّا للتصديق أو بدافع الحشريّة والفضول.
أمام هذه الظاهرة أودّ أن أسأل القارئ العزيز عدّة أسئلة، علّها تحثّه على إعمال الفكر والنقد والتدقيق بما يسمع منهم.
هل أنت تؤمن بالقدر؟
أيّة قوى تحرّك مسيرة التاريخ والمستقبل؟
هل نمارس إردتنا بحريّة؟
أسئلة لها التأثير البالغ على حياتنا ومستقبلنا، ماضينا وحاضرنا، ففي اللّحظة والمكان اللّذين نحن فيهما، أيّة قوة تسيّرنا وأيّ مستقبل ينتظرنا؟ أمور منتظرة يتلهّف المرء لمعرفتها مسبقّا.
قبل التفكير بما سبق، أليس البعض منّا وخصوصا النساء يقرأن خربشات القهوة على جدران الفناجين! ألا نجد أناسا يتشاءمون عندما يقع اليوم الثالث عشر من الشهر في يوم جمعة! وآخرين من رؤية البوم أو الغراب أو القطّ الأسود! بمعنى أو بآخر نلاحظ الكثيرين يؤمنون بالقدر.
القدر يعني أنّ كلّ ما سيحدث مقرر مسبقا، أي معرفة مصير إنسان أو بلد بطرق شتّى بوساطة منجّم يقرأ النجوم أو يسحب الأوراق. إنّ هذا المفهوم ليس بالجديد، إنّما نجده منذ أقدم العصور حتّى يومنا هذا، إذ كانت الحروب لا تشنّ إلاّ بعد استشارة العرّافين والمنجّمين.
فهل فوضى النقاط المضيئة في السماء، أو التقاء نجم بآخر أو اقتراب أحد الأجرام السماوية من الأرض يأثّر على مصير البشر؟ لو كان ذلك صحيحا لتشابه مصير البشر ومستقبلهم في ما بينهم، لكنّ الحقيقة أنّ كلّ إنسان فريد مميّز، تاريخه ومستقبله مقدّس، فهو يتّجه نحو صيرورته وملء كيانه ووجوديته. الإنسان يسعى ويقرّر، يرفض أمورا ويقبل بأخرى، يلحظ المخاطر للابتعاد عنها ويرنو لما يجد فيه خيره الشخصيّ والخير الجماعيّ. مستقبله وحاضره متجذّر بماضيه، خياراته القديمة اتّخذها بناء على قراراته السابقة وتعبه وجدّه وسعيه وظروفه الماضية. الإنسان متجدّد في كلّ لحظة، يتعلّم وينمو، يكبر ويتطوّر وتتوسّع معرفته، في كلّ لحظة لديه الفرص والخيارات الجديدة، مصير الإنسان ليس لعبة بيد المنجّم، بل بظروفه هو عينه وبقراراته واختياراته المبنيّة على ثقافة ومعارف وتربية وأخلاق متجذّرة في ماضيه رغم كلّ الظروف، إرادة الإنسان هي الأساس لأنّها تحارب وتجاهد لتتجاوز كل العقبات.
من جهة أخرى لا أريد أن يتّجه تفكيرنا إلى أسلوب قراءة النجوم والكواكب والأجرام السماويّة وتأثيرها على البشر، بل أودّ أن تبقى أقدامنا على القاعدة الصلبة الوحيدة التي نستطيع أن ننطلق منها والتي هي التاريخ، وما الذي يسيّره ويحرّكه؟ فهل تسيّره حركة النجوم وبعدها وقربها من بعضها البعض؟ هل يسيّره عقل لا زمنيّ خارجيّ؟ بالطبع «لا».
بالنسبة للفيلسوف الألمانيّ «هيغل» الذي ولد عام «1770م» التاريخ هو تطوّر فكر العالم، بمعنى تطوّر العقل البشريّ وثقافته، فهو سلسلة من الصحوات البطيئة لوعي العالم على نفسه، ففكر العالم سينمو ليصل إلى وعي أكبر فأكبر، فديناميّة التاريخ وزخمه وحيويّته وقوّته المحرّكة هي المعرفة الإنسانيّة المتراكمة والمتجدّدة، وما من شيء آخر سوى ذلك. فالمستقبل هو الجزء القادم من هذه السلسلة.
إنّ التاريخ والمستقبل مرتبطان بسلسلة واحدة، ولمّا كان التاريخ محرّكه داخليّ وهو الوعي البشريّ أي أنّ الإنسان هو من يصنع التاريخ، فكذلك المستقبل محرّكه داخليّ وليس خارجيّا، ما من تأثير للفلك على أحداث المستقبل، بل الإنسان بمعرفته وإرداته ووعيه هو من يصنع تاريخه وحاضره ومستقبله.
كنّا قد سألنا سابقّا هل نمارس إرادتنا بحريّة؟ وينبثق عن هذا السؤال عدة أسئلة عن الحتميّة والإجبار وتسيير الإنسان؛ لكن في هذا الصدد أقول إنّ الإرادة ليست كالمياه الجارية على سفح جبل تنتقل من منخفض لآخر لتصل إلى أدنى دركات الأرض، قد نجد أناسا يجرّون بإرادتهم نحو شهواتهم ولذّاتهم، لكنّ الإرادة الخيّرة الحرّة هي تختار برضاها الخير وتنجذب نحو الخير الأعظم، يقال للشابّ في سرّ الزواج: «هل تختار برضاك \”فلانة\” زوجة لك؟» هذا الاختيار يدفع الإنسان نحو الجهاد والصبر وتحمّل صعوبات الحياة. الإرادة الحرّة هي التي تقول للخير: «نعم»، أمّا للشر «لا». ليس هناك من قوى تكبّل إرادتنا وتمنع حرّيّتها، فهي تنمو وتتعقل وتميّز، فأنت تستطيع أن تقول للشر «نعم» لكنّ البطولة في تمييز الخير والانجذاب نحوه.
يقال إنّ شركة السيّارات العالميّة toyota اليابانيّة الصنع، كانت تدعى toyoda ولكنّهم عند إنشاء الشركة استشاروا أحد المنجّمين لتوقّع مستقبل الشركة، فقام بحساباته ووجد نذير شؤم بوجود الحرف الدال فاستبدله بحرف التاء؛ لكنّ السؤال هل اشتهرت هذه السيّارة بسبب اسمها أو لصلابتها وقوّتها ومتانتها؟ لذلك إرادتكم الحرّة الخيّرة وسعيكم وكفاءاتكم هم سلاحكم للمستقبل، ولذّة الحياة تكمن في خوض غمارها ومغامراتها، فلا تدعوا أحدا يسلبكم حريتكم ومستقبلكم، كونوا أنتم بشخصيّتكم، كونوا كما تريدون أنتم وليس كالصورة التي يرسمها لكم المنجّمون. عيشوا حياتكم بملئها وتمتّعوا باللّين والصلابة لتتجاوزوا عقبات الحياة، وليكن الفرح في قلوبكم كلّ يوم لتستقبلوا أحداث الحياة المميّزة، الحياة واحدة فلتكن لكم بوفرة.