سخر كثيرون في عالم التواصل الاجتماعي الافتراضي (يعني الفيس بوك والتويتر في مصر) من وزير التعليم الجديد الهلالي الشربيني الهلالي الذي هشمت خواطره المكتوبة على الفيس بوك قواعد اللغة العربية الفصحي تهشيما، بداية بالنحو والصرف ومرورا بالإملاء (وخاصة حرف ”الذال“ الذي حوله الوزير إلى ”زاي“ أو التاء المربوطة التي صارت ”هاء“) ونهاية بركاكة الجمل وفقر المفردات. كل هذه السخرية ما كانت لتحدث لو أن الوزير نطق ما قاله دون كتابة. كلنا في مصر تقريبا نتحدث اللغة العامية التي تنطق فيها الأغلبية الساحقة الذال والتاء المربوطة مثلما كتبها الوزير.. نحن لا نكتب بالعامية سوى نادرا ولا نتحدث بالفصحى في الحياة اليومية، بينما تتمسك الصحف المطبوعة ونشرات الأخبار والخطب السياسية الرسمية كلها بالفصحى رغم الأخطاء المتزايدة والفادحة وخاصة في النحو والإملاء.
ليس هذا كله محاولة لرصد تناقض يعلمه المهتم بشؤون اللغة والحياة العامة في العالم العربي كله، وليس بالتأكيد محاولة لالتماس عذر للوزير الجديد الذي سريعا ما أُغلق الحساب المنسوب له على الفيس بوك، ثم قال إنه لا يستعمله، ثم عاد فنفى وجوده أصلا.
تناقضات وتفاهة الخواطر المنسوبة للرجل وكذبه المحتمل أمور كانت كلها كفيلة، في واقع مختلف، أن تنهي مستقبله السياسي، بغض النظر عن تعثره في قواعد الإملاء والنحو والصرف، والذي يشبه فيه أغلب الشعب، متعلمين وأميين.
ما زالت العامية المكتوبة، رغم انتشارها النسبي على وسائل التواصل الاجتماعي، مستهجنة عموما، وخصوصا فيما يُنظر إليه على أنه مجالات الكتابة الجادة (الصحافة والبحث الأكاديمي والكتب غير الأدبية، إلخ). ولا يرى كثيرون غرابة في هذه الفروق الشاسعة أحيانا بين المكتوب والمنطوق، سوى الأطفال الذين لم يتعلموا بعد إزدواجية المعايير، بل وتعددها حسب علاقات النفوذ والسلطة.. أعرف طفلا في السابعة، ماهر في تعلم اللغات مثل أقرانه في هذه المرحلة العمرية، قال لي إنه يتحدث أربع لغات، فطلبت منه أن يعددها فقال: إنجليزي وفرنساوي وسوري ومصري. أوضحت له أن السوري والمصري هما الاثنتان لغة عربية. وفي حوارنا التالي سألني عن اللغة المنطوقة في برنامج رسوم متحركة كنا نشاهده سويا، فقلت له: عربية، بدا مندهشا قليلا، فقلت له: إنها عربية فصحى، فرد ممتعضا: يعني في تلاتة عربي، مصري وسوري وفصحى.
الأطفال المحظوظون في بلادنا وهم أقلية قليلة، يذهب معظمهم إلى مدارس لغات تضعف فيها بل وتتلاشى مع الوقت قدرتهم على الحديث والكتابة باللغة العربية (فصحى أو عامية) بينما الفقراء، وهم الأغلبية، يذهبون إلى مدارس حكومية، فلا ينتهون إلى إتقان أية لغات بما فيها العربية، حتى تعدت نسبة الأميين بين طلاب المدارس الإبتدائية المصرية الثلث (٣٤٪ وفقا لوزارة التربية والتعليم). وباستثناء الأعمال الأدبية فقد اضمحل دور اللغة العربية (فصحى كانت أم عامية) في إغناء الثقافة الكونية، ولم تعد هناك سوى أعمال قليلة (معظمها أدبية) تترجم من العربية إلى اللغات الأخرى المنتشرة (مثل الصينية والإنجليزية والإسبانية). ستواصل العربية الفصحي اختفائها التدريجي من الحياة العامة مع سيطرة التلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي على انتشار وذيوع مفردات وتعبيرات دون غيرها، مع غياب أي جهد منتظم وواسع للكتابة والنشر بالعامية. سيتواصل انسحاب الفصحى إلى الكتب والشعائر الدينية وخطابات السلطة ونشرات الأخبار وتستمر في نزف حيويتها وإمكانيات تجددها.
ما زال البعض يحتج أن العامية (مصرية أو غيرها)، لا يمكن استخدامها في أبداع أعمال رفيعة عن السياسة والثقافة والأدب، وهو موقف لا يعكس سوى حب هؤلاء الأشخاص للفصحى. بيّد أن الكتابة باللغة العامية والتواصل بها في القضايا الجادة لا تعني محاكاة لغة الشارع، بل استخدام مختلف للمفردات وتركيب الجمل، ولعل الخواطر العامية التي ينشرها الدكتور خالد فهمي دليل على قدرة العامية على تناول قضايا في التاريخ والسياسة والفن بغنى وتعبيرات تتعامل بعمق أكثر مع عواطف القارىء وذائقته.
وهناك عدد كبير من الأعمال الأدبية والسياسية البديعة بالعامية منها أشعار بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم، ومذكرات لويس عوض البديعة ”مذكرات طالب بعثة“ (١٩٦٥) عن رحلته لنيل الدكتوراه في أوروبا في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، ورواية مصطفى مشرفة المذهلة ”قنطرة الذي كفر“ (١٩٦٦) عن فقراء ثورة ١٩١٩ ودورهم في صناعة الثورة. اختفى كتاب لويس عوض أكثر من عشرين عاما ليتم نشره بعد أن رفضه مكتب الرقابة في عام ١٩٤٢. في المرة الأولى طلب الرقيب المعمم أن يعيد عوض كتابة النص كله بالفصحى ورفض أن يقرأه، وفي المرة الثانية طلب الرقيب القبطي (وكان فدائيا معارضا للإنجليز حُكم عليه بالإعدام قبلها بسنوات طويلة) أن يحذف عوض من الكتاب كل كلمة وفقرة وجملة جاء فيها ذكر للحرب أو نقد للإنجليز، ومثلا قال الرقيب: ”لا داعي أن تقول: الإنجليز اللي تعبونا من سنة ١٨٨٢ … قل: الإنجليز اللي عرفناهم من سنة ١٨٨٢.“، ولخص له الرقيب الموقف قائلا: ”أنت تنسى يا أستاذ عوض أننا في حالة حرب.. أنت تنسى يا أستاذ عوض أننا حلفاء أنجلترا.. أنت تعلم انه ليس كل ما يعرف يقال.“
وحتى يمكن أن نقول كل ما نعرف بطريقة يفهمها وربما يتبناها ويعدلها أبناء الطبقات المُستغلة والفئات المُستلبة، يجب أن نغير الطريقة التي نكتب بها.. يجب أن نتوقف عن إدعاء أننا نتحدث باسمهم ونحاول أن نتحدث مثلهم عما نريد الكلام عنه. يختم مشرفة روايته على لسان أحد شخصياتها الرئيسية: ”فيه أجيال تانية جديدة أقدر على الكفاح ودي سنة الطبيعة.. البلد بتجدد نفسها باستمرار، لإن لازم الجيل الحاضر يموت عشان ييجي جيل أحسن منه، ولازم يموت القديم عشان ييجي الجديد.“.. خلّونا نساعد القديم يموت ونوسع مكان للجديد، ولننشد مع صلاح جاهين رباعيته الشهيرة:
عيني رأت مولود على كتف أمه
يصرخ، تهنن فيه. يصرخ، تضمه
يصرخ، تقوله يا بني ما تنطق كلام
ده اللى ما يتكلمش يا كتر همه
عجبي!
(يتبع)