خالد مصطفى يكتب: ماذا حدث لذوقنا في الأكل؟

عشت ١٤ سنة في أمريكا أزور مصر مرة أو مرتين في السنة، وأقضي بقية السنة أحكي للأمريكان عن حلاوة الأكل في مصر.. كانوا دائما يلاحظون الزيادة في وزني في الأسابيع الثلاثة أو الشهر الذي أقضيه في المحروسة. كلمتي المعهودة كانت: \”أنا مش باكل علشان جعان، أنا كنت باكل علشان مفيش وقت.\”

كان هذا في بداية الألفية الثالثة. كنت أعشق أكلات كثيرة بأنواع مختلفة من أول أكلة السمك المصرية الفريدة في بحري في الأسكندرية وحتى فروع المطاعم الأمريكية التي كانت دائما أفضل طعما عن مثيلاتها في موطنها الأصلي. كانت لي قائمة من المطاعم والوجبات التي يجب أن أتناولها في كل رحلة. وكنت أحلم بهذه الوجبات في الشهور العديدة ما بين الرحلة والأخرى.

كل هذا استمر لسنوات عديدة، لكنه انتهى، وليس لعودتي لأرض الوطن منذ سنتين وتوفر هذه الأماكن بصفة يومية.. انتهى قبل ذلك بفترة. لا أستطيع تذكر متى بدأ الانحدار، في وقت ما بين ٢٠٠٨ و٢٠١٠. حدث انحدار شديد في مستوى الطعام في مصر. ربما بسبب الزيادة السريعة في عدد المطاعم، أو ما يطلق عليها \”الكافيهات\”، وربما بسبب الاعتماد الأساسي على الشيشة في هذه الكافيهات مما أدى إلى عدم الاهتمام بنوعية ولا جودة الطعام. لا أدري ما هو السبب الرئيسي لهذه الظاهرة، لكنها حادثة بلا شك، يوجد انحدار في مستوى الطعام في المطاعم المصرية في الخمس أو السبع سنوات الماضية.

طعام الكافيهات المنتشرة يدور في معظمه حول نفس الأفكار، بيتزا عليها كمية ضخمة من الجبن، أو مكرونة بصوص غزير أو وجبات تبدو عديدة، لكنها لا تخرج عن دجاج أو لحم بقري مع بضع أنواع الصوص، والذي يغرق الوجبة حتى يغطي على طعم اللحم ويعطي إحساسا واهما بالنكهة الطيبة.

حتى المطاعم التي كانت تقدم الوجبات والسندويتشات الشهية، بدأت تبعد عن جودتها المعروفة.

تتجه بعض المطاعم لتغيير المحتوى، فترى أشهر مطعم مصري للوجبات السريعة، والذي كان يشتهر بسندويتش \”الفاهيتا\” الشهي، بغض النظر عن عدم ارتباطه بالمعنى الأصلي للفاهيتا، تراه أضاف مايونيز على السندويتش مما يفسد طعمه الفريد. ربما كي يزيد الإحساس بكمية الحشو بدون إضافات مرتفعة الثمن.

ويتجه البعض لتغيير طريقة الطهي، فترى أشهر المطاعم الصينية في مصر قد استبدل عملية القلي السريع المرتفع الحرارة \”ستير فري\”، وهو قد يعتبر أساس الطهي الصيني، بعملية أخرى وهي سلق الدجاج أو اللحم والخضار ثم خلطهم بالصوص. مع أن المطعم لازال يدرج الوجبات تحت \”ستير فري\” في قائمة الطعام. والسبب واضح، وهو توفير الوقت والجهد والمهارة على الطباخ، حيث يتم السلق والتجهيز من قبل، ثم الخلط والتسخين عند الطلب.

أما الغالبية العظمى من المطاعم، فتتجه إلى التوفير في المكونات، من أول استخدام اللحم المستورد المجمد الأقل تكلفة، وحتى تقليل تكلفة الخضروات. ترى معظم المطاعم يتجهون إلى الخس المكور \”الكابوتشا\” بدلاً من الخس البلدي والأقرب إلى ما يعرف عالميا بالخس الروماني، والمعروف بجودته العالية التي تفوق خس الكابوتشا بمراحل. والسبب هو طول عمر التخزين للكابوتشا وما يترتب على ذلك من تقليل للهادر وللتكلفة.

تلاحظ هنا الاتجاه العام لتقليل التكلفة والمجهود والوقت على حساب الجودة والطعم. لكن أين المستهلك من كل هذا؟ لماذا لا يعترض؟ لماذا لا يطالب بالجودة المعهودة؟ واضح أن ذوق المستهلك لا يبالي بالجودة. لا أعلم ما إذا كان الذوق انحدر بسبب الطعام المقدم أم أن جودة الطعام انحدرت بسبب انحدار الذوق العام. لا أعلم أي منهما السبب، وأي منهما النتيجة، ما هو واضح إن الاثنان في سقوط. وواضح أن انهيار الذوق العام في الأكل لا ينفصل عن الذوق العام للشخصية المصرية التي تتعرض لضغوط اجتماعية واقتصادية مهولة.

لكن في وسط هذا الانهيار، يوجد أمل.. نلاحظ ثبات بعض المطاعم العريقة غير المشهورة على مستواها. ربما لأنها لم يصبها الدور في التمدد والتوغل والانتشار، وهذا ليس هو الأمل الوحيد. نرى بعض البؤر الصغيرة من المطاعم الجديدة التي تقدم أكلات عالية الجودة، من الممكن أن يطلق عليها \”جورميه\” أو \”فاين دينينج\” بدون التكلفة الباهظة.

بدأت هذه المطاعم في الانتشار في آخر سنتين لثلاث سنين، والآن تنتشر بسرعة وتبدأ حتى في الخروج من مراكزها الأساسية، الزمالك والمعادي والجونة، للأماكن الأقل حظا في القاهرة مثل مصر الجديدة ومدينة نصر والمدن الجديدة. لكن هل تصمد هذه المطاعم أمام اقتصاديات السوق الكبير؟ هل تجد المستهلك ذا الذوق الرفيع الذي يقدر الجودة؟ هل تستطيع سحب السوق بأكمله إلى مستوى أعلى؟ سوف نرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top