حنان كمال تكتب: نوبة ألم

يخبرني الطبيب أنني سأظل اتعاطى الدواء الذي يسبب لي نوبات ألم وحمى ما بقي من عمري, ابتسم واتقبل قدري, فما بين نوبة ألم وأختها يمنحني الله ثمانية وعشرين يوما سأفعل فيها الكثير.

لدي الكثير لأفعله فيما بقى من عمري, مازالت هناك كتبا أريد أن اقرأها، وموسيقى لاسمعها ومعرفة لأحصدها في قلبي, مازال لدي الكثير لأحكيه لابنائي, قبل أيام قلت لنور أنها تشعر بالفن، ولذلك ستصبح فنانة, استجوبتني نور مطولا كي أشرح لها ماذا يعني \”أنها تشعر بالفن\”, وحكيت لها كثيرا.. احب ذوق نور في الموسيقى واتصورها في المستقبل فنانة في إحدى فرق الموسيقى بشعرها المموج وطلتها التي تشبه طلات جنيات الحواديت, ساحرة وطيبة.. احكي لها كثيرا عن الموسيقى.. لا اعلم هل سيمنحني الله بقية عمر لأراقب رحلتها مع الفن والحياة؟

احكي لحمزة عن سري الكبير, بعدما يكبر الأبناء وتقل واجباتي تجاه الآخرين، سأحمل متاعا قليلا على ظهري وأبدأ رحلتي حول العالم, لا لن اختار الأماكن السياحية، ولن تكون وجهتي هي أوربا وأمريكا, سأطوف البلاد المجهولة التي لا تظهر على الخريطة, سأعبر أنهارا واعيش في قرى وأصاحب البسطاء والمجهولين.

اقول لحمزة إنني أريد أن اعيش في كل القرى وفي كل المدن وأن اتسلق كل الجبال واعبر كل البحور.. اصاحب كل البشر.. أريد أن اشعر بحرارة شمس الصباح في كل بقعة من بقاع الأرض.. أريد حقا أن اعيش كل الحيوات التي خلقها الله على الكوكب.

كطفلة مشاغبة شاغبت الموت حين اقترب, حين هاجمني وجدني مفتونة بالحياة فرحل, هل يرحل كثيرا, هل تطول غيبته.. لا اعلم.

اعد على أصابع اليدين كم من السنوات أحتاج كي اطمئن على أبنائي.. خمسة.. عشرة.. عشرون.. تسألني سارة: \”انتي هتبقي عايشة يا ماما وتحضري فرحي؟\” أرد بالإيجاب: طبعا، وأنا غير موقنة بالإجابة.. لا أخاف من الموت, لو جاءني الموت سأخلق منه نوعا جديدا من الحياة.. أقولها ثم اضحك على البلاغة العنترية التي تعتريني.. لا بأس فليأت الموت في وقته المحدد.. تقول أمي لا يمنع حذر من قدر.

يتكثف الألم في مكان عميق داخل جسدي.. لا أدرك على وجه التحديد مكان انبعاث الألم.. هل هو ساقي, أم ربما يكون في ظهري, أم في بطني.. ما أسخف الألم حين يكون مراوغا, كنقطة نار تتجول داخل جسدي.. تمس روحي مسا.. أغمض عيني، فأبصر وردة عملاقة من نور تتفتح, وردتي ذات اشواك, لعل الأشواك هي كل ما خلفه الألم بروحي.

أعيد اكتشاف الألم.. في حالتي بعض الألم رحمة، ومؤشر على السلامة, تقول لي الممرضة إن التكتلات الجديدة التي تتشكل في جسدي لا تخيف طالما أنها تؤلم, فتكتلات السرطان غير مؤلمة, ويقول لي الطبيب إن العلاج يخلق التهابا مصطنعا داخل الجسد يمكنه من إعادة توزيع الكالسيوم على العظام المصابة, فالألم ضروري هنا للشفاء.. أحمد الله على نعمة الألم، واتذكر أنني قديما كنت كلما داهمتني الآلام، اتصور وكأنها سكين يمزق في بدني, فلنعيد تشكيل الصورة إذن، ولنستبدل السكين بكمنجات ناعمة, تعزف بأوتارها الحادة على جسدي المسكين.. الصورة أكثر جمالا.. أليس كذلك؟

اقاوم فكرة ابتلاع مسكن قوي.. أنا وألمي سنحيا معا ما بقى من العمر, علينا إذا أن يعتاد كل منا على رفيقه, ويتقبله كما هو.. ابحث عن النوم لعله يهدهد الألم داخلي, وحينما يهرب النوم, انتظر الصباح, حين ستشرق الشمس سيستريح الألم ويهدأ.

في موعدي مع طبيبة الأشعة, كي نحدد هل عاود السرطان هجمته مرة أخرى أم مازالت الرحلة آمنة, تضع الطبيبة أجهزتها الكاشفة فوق جسدي, وتحدق كطائر السنور في الشاشة التي أمامها, لا تسألني ماذا يعني طائر السنور, فقد كنت في أقصى درجات قلقي في مواجهة الطبيبة التي تضيق حدقتها وتقترب من الشاشة ثم لا تريد أن تبوح بما تظهره صور الأشعة, كان لابد أن اخلق ما اشغل به ذهني القلق, ليس هناك ما هو أجمل من تأمل عيني الطبيبة وأنا أقول لنفسي: لابد ان هذا هو شكل عيني طائر السنور الذي تتحدث عنه الروايات العميقة.. انتهت الطبيبة من فحصها وأخبرتني أنني بخير، فشكرتها متتنة وانصرفت وأنا اتلمس السنتميترات القليلة من الشعر التي نبتت فوق رأسي.. الحمد لله لن اضطر إلى فقده قريبا.

لدي أشياءا كثيرة لافعلها بحياتي.. كان ما منحته لي الحياة حتى هذه اللحظة قصيرا ومشوشا ومزدحما, ولم اتمهل لتحقيق ما حلمت به, طموحاتي ليست كبيرة.. لا أريد أن اكون مديرة ولا مشهورة ولا غنية إلا بقدر ما يعينني على الحياة.. أريد أن اعيش لأنني احب الحياة في ذاتها.. احب أن ألمس دفقاتها, واحب الحرارة التي تنبعث منها, وأحب حتى الألم، كما احب لحظات السعادة العابرة التي تشبه فقاعات الصابون الملونة, سأعد الله إن منحني مزيدا من الوقت، أنني سأكف عن إضاعته في الأشياء التي لا تستحق, سأتوقف عن لعب المزرعة السعيدة, وسأكف عن القلق الذي يحرق العمر.. سأمنح نفسي المزيد من أمسيات الاستلقاء على أريكة مريحة والتأمل, وسأرقص مع الموسيقى التي تعجبني في الوقت الذي يعجبني دونما خجل، وسأحب من أحبهم بلا تحفظ, وسأكون جميلة بالرغم من الشيخوخة التي تقترب.

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top