لا يعلم أبناء أحمد نصر الدين ما كانه أبوهم حقا.. ربما لا يدركون أن خلف ذلك الرجل الجالس مفتقدا لنصف قدراته الجسدية والذهنية يكمن ساحر.. لا ليس ساحرا.. عصفور.. عصفور متدلع.. عصفور ريشاته ملونه ينثر البهجة أينما كان.
لم يخيفني الزمن قدر ما يخيفني الآن، وهو يتدفق في مساره بقوة ونحن على هامشه نحاول استعادة نصرو.. نصر.. البرنس كما يناديه أصدقاؤه , فهل سننجح؟
حينما يتملكني اليأس.. اجلس على أريكتي واستحضر صورته القديمة، واخبره عما يفعله بي الفقد.. احكي له كثيرا عن عجزي وقلة حيلتي.
في بعض الأحيان اسمع مواساته لي واشعر بقلبه يحزن لأجلي.
كان بريئا حقا.. حين التقينا للمرة الأولى سألته ماذا تفعل؟ اخبرني أنه يكتب ويرسم ويؤلف الدراما ويخرج.. وقتها قلت لنفسي: من هذا المجنون الذي لن يكفيه عمرا واحدا ليحقق كل أحلامه؟!
ببراءة مفرطة يخوض الحياة كمثقف وصعلوك أحيانا، كمناضل وفنان, يجمع الأضداد وكأنه قبس من روح الكون.
لم اكن أعلم أن حبا صغيرا ينمو بقلبي تجاه نصر.. حينما هل علينا بطلته الباسمة ونحن جالسين بحديقة الجامعة.. أنيقا – كعادته – مرتديا قميصا ورديا فاتح اللون, خارجا لتوه من المعتقل, بعد حبس استمر خمسة عشر يوما, كانت طلته هي البشارة التي عرفنا بها أن كل المعتقلين خرجوا وعادوا لبيوتهم وأهلهم, أما أحمد فكنا أهله وكانت الساحة الخضراء بالجامعة هي بيته.. من يومها ادركت أن هذا الفتى ينشر الفرح أينما حل. سيظل أحمد يحكي عن هذه الحبسة دائما بوصفها نزهة.. كان يعلم جيدا أن خمسة عشر يوما لا تساوي نضالا ولا تحرر أوطانا.
نخرج من الجامعة رفاقة نسير في شوارع وأزقة وميادين، ونحن نغني.. نغني لهذا الوطن، اتفاجأ الآن أن أحمد الذي فقد كثيرا من ذاكرته مازال يتذكر وبقوة أغنيات الوطن والحرية!
صاحبت أحمد حين كنا صغارا جدا.. كنا طلابا في الجامعة.. قضينا أربع سنوات كاملة في مودة الصداقة الخالصة, حتى كان ما شعرت به في الأيام الأخيرة من شهر مايو سنة 1997, مفاجأة لي.. هل أحب أحمد حقا؟! هل يشرق كل هذا الفرح في حياتي؟!
هاتفني بعدها بأيام وقال لي: \”بحبك.. وراضي معاكي بالقليل\”.. من يومها ولأحمد نصر بصمة وعلامة في كل شئ في حياتي.. من أول كيف أفكر وحتى كيف اختار ملابسي.. نتناقش معا كل يوم في كل شئ وأي شئ.. استطيع أن أخبرك برد فعل أحمد نصر الدين في كل موقف، ورأيه في كل قضية.. الالوان التي يفضلها.. ماذا سيأكل الآن.. النكات التي سيلقيها, والمزة التي ستعجبه اثناء سيرها في الشارع.
هو أيضا – وبحسب أصدقاء- فإنه كان يقول لهم الآن ستتصل بي حنان، فيرن جرس الهاتف بمكالمة مني.
هذه المحبة التي طبعت ملامحنا بذات التعابير, كان يظن بعض من كنا نلتقيهم أننا أخوة, لم يكن يزعجني هذا، فقد فهمت لماذا كانت المرأة الفرعونية تتغزل بحبيبها بقولها يا أخي.. تلك الإخوة التي هي أكبر من إخوة الدم وحتى من عاطفة الحب.
حين القبلة الأولى رأيت في السماء عصفورين يتبادلان القبل.. كنت احكي لأحمد هذا المشهد فلا يصدقني، ويظن أنه من ضمن خيالاتي العاطفية, وما همني أن يصدق.. كنت مجذوبة بكاملي لهذا السحر الذي يخلقه أحمد نصر الدين في المكان.
في البيت يصنع أيقوناته كاملة.. تزين جدرانه صورا ليوسف إدريس ونجيب محفوظ وصلاح جاهين والشيخ إمام.. فراشي الرسم تتألق في جراب من الجينز يصنعه بيديه.. تصدح أغنيات سيد درويش والشيخ ياسين وعبد الوهاب.. نغرق سويا في التراث الصعيدي.. نقرأ لصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان وإبراهيم عبد المجيد.. ندخل عالم الرسامين.. يحب محمود سعيد وجوجان.. مناسب هذا جدا لشخصيته التي تشبه طبيعة بكرا عصية على الانقياد إلى داخل النسق.
وسيما معجبانيا.. تحسدني الفتيات عليه.. اعرف هذا.. اعرف أنني في عرف المجتمع غير جميلة, لا يحب الناس السمراوات وهو يحبني.. لا يحب الرجال القصيرات، وهو يحب قامتي القصيرة.. يصفني بالبطة.. ظل يحبني حتى صرت جميلة حقا.. هذا الجمال في ملامحي صنعته محبة أحمد نصر الدين، فكلما أحب في ملمحا صار أنثويا أكثر, وكلما تغزل في شئ من روحي كلما صرت جميلة.. يجلس أحمد الرسام فيرسمني مهووشة الشعر نحيفة كما كنت.. ارى نفسي في مرآة روحه فاحبني أكثر.
تناديه الفتيات الجميلات بـ \”نصرو\” على سبيل التدليل, فاستعير التسمية بلا تحفظ.. احبه هكذا.. هو نصرو الوسيم الذي يحب الفتيات ويحببنه.. يليق هو بالمحبة وتليق به, هو الرائق كنبع ماء, المشرق كشمس, المندفع كالطبيعة الأولى, الساحر كلحظات الفجر الأولى، الواسع كبحر.
عشنا معا سنوات طوال في أطوار متعددة .. عشنا سنوات كصديقين, كنت عرابة إحدى علاقاته العاطفية ذات يوم، قبل أن نصبح حبيبين لسنوات أيضا, وبعدها اصبحنا زوجين لسنوات أكثر وأكثر.
في قلب نصرو نصف عمري الذي مضى وأكثر، وفي ابتسامته التي تطل بخجل اليوم كل الأمل الذي اربيه بقلبي حتى يعود ذلك العصفور ينشر برفرفة جناحيه بهجة الدنيا.