كنت طفلة شديدة النحافة, اتحرك كأنني اطير من فرط خفتي, كنت استمتع جدا بالأيام الشتوية العاصفة, كانت الريح تدفعني وكنت لخفتي اشعر أنني ريشة تطير في الهواء.
في تلك الأيام سألت نفسي ماذا يحدث إذا فقدت قدرتي على الحركة, واتفقت بيني وبين نفسي على أن هذا أسوأ ما قد يحدث لي, ظللت هكذا حتى كبرت والتقيت أحمد نصر الدين والذي كان من ضمن تحليله لشخصيتي هو أنني من هؤلاء الذين ينمو وعيهم بالحركة, حدثني أحمد كثيرا عن قيمة السكون, لكنني ظللت اتحرك وأنا ادعو الله ألا افقد قدرتي على الحركة.
كبرت طبعا وثقلت حركتي، ولم أعد تلك الصغيرة التي كانت تتحرك وكأنها تطير, لكنني امشي, افرغ توتري بالمشي لساعات طويلة, اتحرك, لم اعد امشي بخفة ريشة، لكنني ازرع الأرض جيئة وذهابا.
أخبرت الطبيبة زينب خير, أن صديقتك ربما تفقد القدرة على الحركة خلال شهرين, لم تخبرني زينب في وقتها, لكنني عندما هاتفتها بعدها بعام اشكو من آلام في العظم, قالت لي: احمدي ربنا واخبرتني بما كانت قد ابلغتها إياه الطبيبة المرموقة في طب الأورام.
كنت اهاتفها وأنا استعد لارتداء حذاءا بكعب عالي, كنت قد انتويت أن ادرب نفسي بعد أربعين عاما من الحياة، على ارتداء الكعب العالي, نظرت للحذاء وأنا مترددة, هل ساتمكن من تنفيذ مشروع ارتداء الكعب العالي, في المستقبل.
عاودتني آلام العظم, هي في النهاية آلام بسيطة ومحتملة, اتذكر الطبيب الفرنسي حين قال لي موضحا: \”ما اتحدث عنه هو آلام تمنعك القدرة على النوم\”, حتى الآن يبدو الوضع تحت السيطرة، لكنني اواجه الوسواس داخلي, يقول لي: لاشك أن تلك البؤرة المؤلمة, هي بؤرة سرطانية على العضام, لا شك أنها صغيرة جدا، لكنها قد تكبر وقد تأكل العضم وهي في طريقها للتمدد.
ابالغ في احتساء الحليب وتناول حبوب الكالسيوم، وأنا احاول أن اهزم وسواسي.
في الصباح اذهب للمستشفى كي اتلقى جلسة الزوميتا، وهي في أصلها أحد أدوية هشاشة العظام وتستخدم لدعم العظام أيضا في حالة الإصابة بسرطان العظام, الزوميتا تعيد توزيع الكالسيوم في الجسم لتدعم به الأماكن المصابة والضعيفة.
في الانتظار يقف مريض يعاني من عرج خفيف, بشكل أدق من فقدان اتزان أثناء السير, اتأمله وأنا اقول لنفسي: هل هذا هو مستقبل حالتي؟ اظل في المستشفى ساعتين لحين انتهاء تحليل نسبة الكالسيوم في الدم, تروح عيني وتجئ تراقب مرضى يسيرون على كراس متحركة, وآخرين يستخدمون العكازات, وغيرهم ممن يتلقون مساعدة على الحركة من الغير.
احمد الله كثيرا, مر أكثر من عام، لكنني مازلت قادرة على الذهاب لتلقي جلسات العلاج بمفردي وعلى قدمي, خفيفة كما زلت كعصفور يحب الحياة.
حين ادخل لتلقي جلسة العلاج يجلس الرجل ذو العرج الخفيف في غرفة مجاورة ذراعه موصولة بالمحاليل، وهو في الغالب يتلقى نفس العلاج, يبتسم حين يراني, وأنا اتأمله كثيرا, اعاني من مخاوف لها علاقة بالمستقبل, لكنني اواصل الحياة, اواصل مشاريع طموحة لا تتناسب مع الإصابة بسرطان العظم, ارتداء الكعب العالي, التمارين الرياضية, السباحة.
اتذكر أن مخاوفي التي راودتني وأنا طفلة قد تتحقق ذات يوم, واذكر نفسي بما تعلمته من أحمد نصر حول قيمة السكون, ربما يأتي يوم يصبح هو زمن السكون.