اليوم بكيت.. كانت اثنتين من الممرضات تبحثان في ذراعي عن وريد صالح لشكشكة الكانيولا, وحين اختارتا الوريد الأبرز في باطن الرسغ, كنت اعرف أنه الأكثر إيلاما، وطلبت منهما اختيار وريد آخر, واصلتا البحث وأنا ادعو الله مع كل شكشكة أن تنجح التجربة, ثم بكيت.. بكيت لأني استهلك دعواتي في الأشياء الصغيرة.. تذكرت أنني لم اعد اطلب من الله ان يمن علي بالشفاء (تسليما لمشيئته) بينما ادعو بلهفة أن انجو من شكة الإبرة في باطن الرسغ.. لماذا ياربي تتركني لهذه الاختبارات الصغيرة؟
تلمس ذراعي المستسلمة بين يدي الممرضة بطنها التي تحمل جنينا يوشك أن يأتي للعالم.. ذلك العالم الذي نوشك أن نغادره.. افكر في المفارقة بين الحياة والموت.. الميلاد والرحيل.
لا اتعامل مع احتمالات موتي كخبر مأساوي.. اتصور أنني دخلت هذه الحياة بأكبر قدر من الحذر والهدوء, وسأرحل منه بلا ضجة.. عموما لا يمثل لي الموت حدثا مأساويا.. إنه مجرد رحيل, ربما العالم الآخر أفضل. نعم هو في الغالب أفضل كثيرا.
لا اكتب لنفسي مرثية, فأنا لا استحق الرثاء, فقد منحتني الحياة كثيرا من بهجتها وألقها حتى إنني اتصور أنني مثل يوسف بك وهبي \”عشت ألف عام\”.
تسألني الممرضة: هل لدي مشاكل في القلب؟ أجيب بالنفي, واتذكر أوهام الطفولة.. كنت اتصور أن أول ما سيعطب فيّ سيكون قلبي.. القلب هو بيت المشاعر، وأنا امارس كل الاشياء بمشاعر حقيقية وصادقة.. لم اتعامل مع أي شئ في الحياة بفتور أو بنصف قلب.. كنت اتصور أنني ساستهلك قلبي سريعا، وأنه سيعطب أولا قبل أن اذوب أنا شخصيا في الهواء كقطعة من حلوى المشاعر, لكن ما حدث هو أن كل شئ فيّ يعطب، بينما يكبر قلبي, يكبر كبالونة أحلام ويحملني بعيدا عن مرارات الواقع في أحيان كثيرة.
أما الكبد فهو بيت الألم, عادة ما تنوح سيدات الصعيد حين الألم بـ \”يا كبدي\”.. اليوم اجري أشعة رنين مغناطيسي على الكبد, لعله خير ويكون سليما بإذن الله.. اضحك لأن المغناطيس الضخم الذي تدخلني الممرضة فيه يجذب بطاقة التعريف المعلقة على صدرها.. تبتسم بخجل وتتركني لوحدي في صحبة الجهاز وتخرج.
يطلب مني فني الأشعة أن احبس أنفاسي.. اجرب التوقف عن التنفس عددا من المرات.. اتخيل أنها بروفة مناسبة على الموت.. تزعجني الأصوات العالية للجهاز, ثم تنساب المادة الصبغية في أوردتي, واشعر بخليط من البرودة والحرارة.. ابكي مرة أخرى.. ابكي هذه المرة لأني لا اريد كل هذا.
كنت صبية عفية حتى وقت قريب.. تزعجني المستشفيات والأدوية والمحاليل والكانيولا, متى سيذهب كل هذا؟
امارس التنفس, ثم كتم الأنفاس وبمتوالية أسرع.. لابد أن فني الأشعة وجد فيّ مريضة مطيعة لم تتحرك قيد أنملة.. تمارس بروفة الموت في أريحية وهدوء, فقرر أن يستثمر هذا فيّ لينصرف مبكرا من العمل.
كنت آخر طابور المرضى الذي بدأ من السابعة صباحا.. تنتهي الأشعة، فانصرف أنا الأخرى في هدوء العابرين.. استقل سيارتي واصارع زحام وسط النهار واعود لاطبخ طعام الغداء لأولادي.. لا شئ يوازن الانخراط في انتظار الموت سوى الانخراط في الحياة.