ولأنني بخير، فسوف احكي لكم اليوم عن الملائكة:
(1)
كان يلهث من العطش, يقف على إفريز شباكي يطلب الماء, يضع عينيه في عيني بثبات لا تفعله الطيور عادة.. للوهلة الأولى لم أفهم لغته, حين وقع وكأن جناحه لا يحمله, نظرت له وهو يسقط, كان هو الآخر ينظر لي كطفل يستنجد بأمه.
اعتدت في الأيام التالية أن اضع له ماء باردا وحبا.. صار يأتي بانتظام بصحبة رفيقته, يشاركهم الأكل في بعض الأيام زوج من الحمام بطوق أخضر يزين الرقبة.
يصوصو العصفور الصحراوي الذي يزورني, وأنا لا افهم لغته.. تزداد حيرتي مع الوقت, لكنه يصير مؤنسي, اعتاد عليه ويعتاد علي, ارتب طعامه كل ليلة قبل أن أنام كما ارتب إفطار صغاري الثلاثة.
(2)
كنت قلقة جدا في الصباح, اقف في طابور الكاشيير، كي ادفع رسوم مقابلة الطبيب, انتبهت للممرضة الهندية السمراء ذات الملامح الصغيرة للغاية, كانت تطالعني بتركيز وتبتسم, تحول قلقي من نتيجة الفحوصات التي سأعرفها بعد قليل إلى قلق من نظرات الغريبة, فكرت في أنها ربما تكون ملاك الموت يدعوني بنظرة مشجعة للولوج إلى العالم الآخر.
وأنا جالسة في صالة الانتظار، أخذت اراقب الممرضة الهندية السمراء, كانت صغيرة ورشيقة وخفيفة كأنها عصفور.. كانت تسير في المستشفى بابتسامتها الجميلة وبخطى سريعة تشع بهجة, كانت جميلة جدا، وكأنها فراشة ترفرف في المكان, رغم أنها تخاصم المقاييس التقليدية للجمال, حين اقارنها بغيرها من الممرضات, ادرك أن هذه المرأة التي منحتني ابتسامتها في بداية اليوم, هي روح طيبة, ربما تكون ملاك, لكنه ليس ملاك الموت بالتأكيد.
(3)
على كرسي الانتظار افضي بهمهمات الذكر لمسبحة خشبية صغيرة, تفوح منها رائحة المسك, كنت اعتقد – سابقا- أنني ارسل التحيات للسماء معطرة برائحة المسك, ماذا إن كنت ارسلها إلى قلب السبحة الخشبية, الخشب ابن الطبيعة وله روح ويتنفس!
اقرب السبحة من فمي وأودعها ما في نفسي من تحيات, ماذا إذا كانت السماء والأرض تتقاطعان في هذه اللحظة في صلاة طيبة تخرج من فمي!
يمر أمامي رجل وزوجته, لم اعلم أيهما المريض, في البداية ظننت أنها هي بحكم التعود, فأغلب المرضى في المستشفى من النساء, التفت لكونه يعاني عرجا خفيفا، فأظن أنه هو المريض, ينظر لي بتركيز, لا شك أن المسبحة التي كانت تتلقى أسرار المحبة هي سبب تركيزه, احاول اخفاءها فلا رغبة لي في لفت الأنظار, يتنقل كثيرا هو وزوجته في صالة الانتظار وبين الغرف، لاشك أنهم يفعلون شيئا أكبر من مجرد انتظار الدور لمقابلة طبيب, ربما ينهون أوراق, أو يطلبون تقريرا.
يحين دوري أخيرا، فادخل لمقابلة الطبيب, وحين اخرج من غرفة الطبيب, مطمئنة هذه المرة، الاقي وجها في وجهي, ينظر لي ويبتسم, فابتسم.
(4)
يقول الطبيب إن كبدي سليم, ويقول لي إن بإمكاني أن اعيش عشر سنوات أخرى، وربما عشرين أو ثلاثين.. اضحك كثيرا.. اتخلص من هم اليوم وما سيأتي من العمر، وسأعرف كيف سانفقه.. ابدأ في معاودة الخطط النهمة للحياة.
سأتعلم كثيرا من الأشياء التي فاتتني ولم اتعلمها في العقود الأربعة التي عشتها, وسأجعل قلبي يرقص مع الموسيقى في كل لحظة, فقلب لا يعانق الموسيقى هو قلب ميت, وأولا وأخيرا ساجعل حولي وفي روحي مكانا فسيحا للملائكة.. سامنحهم من الوصل ما يجعلهم يتنفسون.. ربما اعطر كوني بأنفاسهم الزكية.