حين توفي أبي، كانت رئته قد انفجرت، فامتلأ جسده بالهواء, انتفخ بالكامل, اتصور أن المشهد يليق بخفة أبي, اعتقدت كثيرا أن أبي لم يمت، بل حلق بعيدا.. بعيدا جدا في دنيا جميلة تليق به.
اعرف أنه فوجئ حين عرف وقتها أنها لحظة النهاية, وخاف قليلا, فقد كان يحب الحياة على قسوتها، وها هو يخرج منها مبكرا.
بعد موته بشهر أو أقل قليلا، سمعته يحدثني, كان يمزح معي بطريقته المعتادة, لم اكن اعرف بعدها أنني حامل في أول ابنائي حمزة, وحين علمت، ادركت أن صوت أبي الذي سمعته كانت إشارة البشرى.
في ابني كثير من روح أبي, لعله حين منحني بعضا من صوته في الغياب, منح جنيني أيضا بعضا أو ربما كل روحه.
في أقرب نقطة من نيل المنيا الساحر ولد أبي.. كان يرى النيل من سطح بيته المبني من الطوب اللبن والمكون من طابق واحد, كنت اظن دائما أن روح أبي تنساب بسلاسة كأنها نهر، وكأنه استعار من النهر ليونته وتدفقه.
كان به أيضا شئ من خشونة الجبل, هكذا هو الصعيدي.. مزيج فريد من الحياة بقسوتها وبهائها, لكن أبي كان يتميز بشئ فوق كل هذا.. إنها الخفة, كان فريدا في ترك أي شئ والتحليق بعيدا.
صبيا في السابعة عشر فقد والديه.. تزوج وانجب صبية جميلة, تهجره زوجته, فيقرر أن يهجر كل شئ, الزوجة والبيت والأراضي الخصبة الشاسعة, ينزل القاهرة صعلوكا وحيدا, يتقلب من وظيفة لأخرى, يختبر صنوفا من صعوبات الحياة ما كان ليختبرها لو ظل جالسا محتميا بإرثه وحياته الهادئة في قرية جميلة على نيل الصعيد.
بعدها بسنوات حين كنا نزور قريتنا, تلك التي ما عدنا نملك فيها أي شئ, نزورها كضيوف غرباء, استوقفتني قريبة عجوز كان أبي دائما ما يحكي عنها بصفتها قريبته أو صديقته المفضلة الباقية من طفولته البعيدة، وقالت لي إن أبي هو الوحيد الذي كسب إذ خرج من هذا العالم الرتيب، واصبح من سكان القاهرة الساحرة.
لا شك أن القاهرة سحرت هذا الجيل أكثر مما ينبغي, لقد احبوها حتى افسدوا الحياة بها، وكنا نحن الضحايا, لسنوات كثيرة كنت افكر فيما لو اتخذ أبي مسارا مختلفا لحياته.. مسارا تقليديا.. احتفظ بإرثه, وظل بقريته, ماذا كان سيكون شكل حياتي؟ لا شك أنني كنت سأحظى بحياة تقليدية وقيود تقليدية كتلك التي تلازم أي أنثى في الصعيد.
كان أبي يحكي كثيرا عن قصة حبه لأمي, بلا حرج ولا تحفظ, فنشأنا في بيت كان يعتبر الحب من الأشياء الجميلة التي لا ينبغي علينا أن نخفيها أو نخجل منها, وكان يعبر كثيرا عن محبته لنا كأبناء.
في هذا المناخ المحب نشأنا, لازلت اتذكر ملمس حضن أبي.. كان وجهه باردا بفعل برد الشتاء, ورائحة سترته الصوفية تعبق بالسجائر, لكن كان هذا الحضن يحمل كل الدفء الذي نما بداخلي ومنحني كل هذه القدرة على المحبة.
فضيلة أبي الكبرى بالنسبة لي، كانت أنه لم يربني أنا وبناته الأخريات بوصفنا ناقصات, كانت أسرته تضغط عليه كي يطلق أمي لأنها لم تنجب الولد في ولاداتها الثلاث الأولى, لكنه كان مؤمنا بما يقدمه الله من عطايا ومنح.. أحاط أسرته وبناته بالحنان كأنهن ورود منحهن له الله, لا اعلم كيف استقى هذا الرجل البسيط الذي لم يقرأ كثيرا ولم ينشأ في كيان سياسي ولا ثقافي كل هذا الوعي التقدمي، ليحفزني وأنا في عامي الأول في المدرسة أن العب مع زملائي من الأولاد بلا خجل، مؤكدا لي أنه لا فارق بيني وبينهم.
نشأت هكذا موقنة بأهليتي الكاملة وإنسانيتي ومساواتي لشركائي من الجنس الآخر على هذا الكوكب, لأبي فضل كبير في أنني لم انشأ محملة بمشاعر عدائية للجنس الآخر، ولا بمشاعر مغرقة في المظلومية كبعض النساء.
هو الذي احضر لي كتبي الأولى لاقرأها.. اتذكر أنه كان يصالحني كلما غضبت بكتاب, بدأ معي بمجلة ميكي, وداوم معي رعايته الثقافية حتى سنوات المراهقة الأولى، فاحضر لي إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وغيرها من الكتب التي شكلت وجداني الأول.
هو الذي علمني قيمة الوقت, كان يجلس معي لساعات طوال كي اركز في دروسي.. افكر كثيرا الآن وأنا اربي ابنائي: كيف كان أبي يمنح وقته هكذا ببساطة ليجلس لساعات بجوار طفلته فقط كي يراقبها وهي تستذكر دروسها؟! يحضها على بذل الجهد, يعلمها الصبر على التعلم, يمنحها مناخا مناسبا للتركيز, ياله من أب يستحق كل المحبة.
أما الدرس الأعظم الذي علمني إياه أبي حين طلب مني وأنا ابنة السنوات العشر, ألا اخشى من الفشل, قال لي هكذا: \”من لا يفشل لا ينجح\”.
كنت صغيرة جدا على أن افهم رسالته, وظللت خائفة من الفشل باعتباره أمر قدري يمر به الجميع كبوابة إلى النجاح.. بعد سنوات ادركت كم كان أبي يريد أن يعلمني فن التسامح مع النفس، وهي قيمة لا يدركها كثير من المثقفين.
كلما مرت السنوات، ادرك أنني نشأت في كنف رجل عظيم, لم يحظ بمسار تقليدي في الحياة بناء على إرادته, ولم يحظ أيضا بثقافة ومعرفة تقليدية، لكنه كان عظيما بفطرته وبذاته، وبصوت قلبه الجميل الذي لا شك أنه انصت إليه كثيرا.