سأحكي لكم عن شعري القصير.. القصير للغاية، لدرجة أن البعض يحدق بي في أوقات كثيرة, لعل أحدهم يتصور أن هذه المرأة لابد وأنها اذنبت ذنبا، فكان عقابها أن حلق لها والديها شعرها, ولعل آخرون يفكرون أنها جريئة جدا، لدرجة أنها استسلمت لصرعة الشعر القصير جدا على نهج الهوليوديات, ربما يأتيه ذلك الخاطر السخيف, أنها مسترجلة, أما الفتيات الصغيرات، فتواتيهن الجرأة أحيانا لسؤالي: لماذا صار شعرك قصيرا جدا هكذا.
فقدته كاملا أثناء علاجي من سرطان الثدي.. لم احلقه ولم اتخل عنه بكامل إرادتي, كان أول سؤال يجري على فمي في الأيام الاولى التي ترددت فيها على أطباء الأورام وبعدما يضع الطبيب خطة العلاج الكيماوي، هو: \”هل سأفقد شعري؟\” تلقيت إجابات مراوغة كثيرا, لكنني اتذكر بوضوح اللحظة التي سقطت فيها أولى خصلات شعري, كانت يداي تمسكان بها وهما ترتشعان, كانت رعشة من عرف الإجابات ورأى الحقيقة كاملة, كانت أيضا رعشة الخوف من أن ارى رأسي أملس تماما خالي من الشعر، وهو ماحدث فعلا، فقد فقدت شعري كاملا في غضون شهر على الأكثر من لحظة سقوط الخصلة الأولى.
اجرب كل الحيل التي تجربها النسوة في ظروف مشابهة.. أضع غطاءا خفيفا للرأس وأحاول قدر المستطاع أن يبدو أنيقا، اجرب أيضا الباروكة أو الشعر المستعار, حينما تهادت موجاته ناعمة على وجهي, تأكدت ان هذا الشعر هو لأمرأة أخرى.. ناعم تماما مثلها, ليس شعري ولا يناسبني، إنه شعر أمرأة اخرى، ولذا يسمى بالشعر المستعار, وأنا لا أريد أن استعير شعر أحد، فخلعته.
كنت قد فقدت رموشي وحواجبي هي الأخرى في مجزرة الكيماوي, كنت في الحقيقة فقدت ملامحي الحقيقية, وجهي لم يعد وجهي وعيناي صارتا مجرد فتحتان للإبصار, وشعرت وكأن فكي تحرك من مكانه، وأن ذقني تغيرت ملامحه.. اكتسبت أيضا كثيرا من الوزن, أنا لم أعد المراة التي كانت, كان كل ما بقي مني هو الصمود والأمل.
تعتمد طريقة عمل العلاج الكيماوي على قتل الخلايا.. الكيماوي يقتل الخلايا السليمة والمريضة بلا تفرقة, كم خلية قتلت بداخلي؟ اسأل نفسي الآن وأنا اتأمل شكلي في المرآة بشعري القصير جدا, هو صبياني نعم؟ ربما يبرز خشونة ملامحي, هو أيضا يبرز قوتي ويعيد تعريفي كامرأة ذات ملامح أفريقية, لكن الأهم من هذا كله، أنه صار ممثلا لحياة جديدة تنبعث داخلي, ممثلا لملايين الخلايا التي قتلها الكيماوي ثم عاودت الحياة مرة أخرى.
هذا الشعر القصير جدا الذي اتأمله كل يوم على أمل أن يكون قد نما ولو مليمترا واحدا, يعيد لروحي ذلك الشغف الذي كان يفترض بها أن تكون غادرته، وقد ولجت عالم الأربعين الناضج, يعيد الاشتياق والأمنيات وأبدو أحيانا كطفلة صغيرة تتمنى أن تواتيها الظروف كي تشتري ربطات شعر على شكل وردة أو أن يطول شعرها أكثر ليكون مناسبا لتسريحة ذيل الحصان, هذا الشعر القصير جدا يبدو تماما كنبتة حقيقية اراقب نموها بأمل.
ننتصر على المرض.. ننتصر على الموت، وننتصر على كل القبح والرداءة والهزيمة والكراهية، وننتصر حتى على الاستبداد والطغيان والفساد, بإمكاننا أن ننتصر حقا، وبإمكاننا أن نواصل الحياة.. شعري القصير جدا يقول هذا لي كل يوم.