حنان كمال تكتب: حين أدركت أنني اشبه أمي

بكيت في الصباح وأنا استمع لقصيدة الأبنودي \”جوابات حراجي القط العامل في السد العالي\”, كان صوت الأبنودي – رحمه الله – ينساب من الكمبيوتر وأنا اطبخ وأبكي.. اتأمل معاني الغربة في قصيدة الستينيات.. يتغرب الرجل كي يبني الوطن، لا ليهرب من جحيم الوطن.. اتذكر جحيم الوطن، فابكي وتنهمر دموعي.. كنت أطبخ كأمي تماما.. ادرك تماما الآن أنني صرت اشبهها, لكن الزمن لم يعد هو الزمن.

كبرت, ومع الوقت صرت اشبه أمي أكثر.. أخبرني أخي بهذا, ظللت اتأمل صورتي.. تغطي ملامحي تلك البشرة السمراء التي تنتمي لأبي, هل ما يجعلني اشبه أمي هي تلك الشحوم التي تكتسبها النساء بسبب السن والأمومة.. اتأمل أكثر، فأدرك أن ثمة سكينة تسللت لنظرة عيني.. سكينة مستعارة من روح أمي.. اتأمل أكثر فأجد صبر أمي يسكن روحي هادئا, يتحداني, وأنا صغيرة كنت كثيرا ما ألومها على صبرها البالغ, ها هو الآن الصبر نفسه يسكن جلدي.. السكينة والصبر هما دلالتا الشيخوخة, فالشباب دائما فاقدو الصبر.. متحمسون.

يخبرني صديقي عن خيارات الهجرة المتاحة له , وينصحني أن ابحث عن مهجر يليق بي.. أذكره بمراسلتنا القديمة التي كنا نحكي فيها عن الوطن وأحلام العدل والحرية, كان هذا قبل عشرين عاما, نواصل حديثنا عن المنافي ونتناقش بجدية.. أي المنافي قد يكون مناسبا أكثر, وأيها سيمنح ابناءنا حياة كريمة.. صديقي عراقي يقول لي أن العراق كوطن انتهى, وهو لا يريد أن ينتمي لدولة سنية ولا لنظيرتها الشيعية أو الكردية.. يحسدنا نحن المصريون على أن بلادنا غير قابلة للانقسام.. مصر باقية.. يقول، وأنا ارد: \”لأنها تأكلنا\”.. اشرح له أن مصر أشبه ببركة مسمومة, ما إن نضع قدمينا فيها حتى نضيع.

في المساء اقرأ أخبار صندل الفوسفات الغارق في النيل.. العبث الحقيقي هو أن تتجسد صورة البحيرة المسمومة حتى قبل أن ينقضي المساء.. اختم محادثة المنافي بأنني كبرت، ولم يعد لدي طاقة للبحث عن وطن جديد.

احسد أمي.. كانت تعتقد بيقين أنها تملك وطنا.. معادلتها كانت بسيطة.. تحب الناس والمكان.. المكان حتى بمفهومه الضيق.. لم تستطع أمي أن تغادر منطقة شرق القاهرة حيث ولدت وعاشت عمرها كله حتى ماتت.. تحكي لنا عن منطقة الزيتون قديما.. كانت كلها حدائق زيتون, حتى جاء العمران وجرفت الأرض الزراعية، وتحولت الزيتون لمنطقة سكنية.

تحكي أمي قصصا من طفولتها البعيدة.. عن عساكر إنجليز يطاردون البنات المصريات لخطفهن, وعن الملك فاروق الذي كن يخفن أن يراهن لأنه كان يخطف النساء من أزواجهن.. تحكي أمي قصصها المشوشة, ثم تحمد الله على أن الإنجليز رحلوا وأن الملك فاروق أيضا رحل, وأنا اضحك من قصة خوفها من الاختطاف الذي حملته فوق ظهرها عمرا كاملا، ولم تتحرر منه.. لم تدرك أبدا حدود الحكاية التي اخافتها أمها بها ذات يوم وهي صغيرة.

تنتمي أمي لهذه البلاد حقا.. تحب أغاني الفلاحين والتراث الشعبي.. اتذكر فرحتها حين علمت أنني احب الاستماع إلى الشيخ ياسين التهامي, حيث وجدت أخيرا ذائقة تجمعنا بعد سنوات المراهقة الأولى التي كنت اتعالى فيها على ذوقها الشعبي.

هل انتمي إلى هذه البلاد مثلها؟ قديما كنت اعتقد أنني اشبهها.. اشبه البلاد وليس أمي, الآن اشعر أن عالمي يتآكل كطبقات هشة من الجليد.. ثمة عالم جديد يولد، لكنه لا يشبهني ولا انتمي إليه.. احسد أمي لأنها وجدت ببساطة ما تنتمي إليه بدون تعقيدات.. لم تدرك أمي أبدا أن الشقاء الذي عاشت به وماتت به من صنع هذا الوطن الذي تحبه.. أنا اشبه أمي.. الفارق الوحيد أنني اعرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top