حنان كمال تكتب: الأشياء التي لن تعود

كنت اعلم أن حياتي في الإمارات جميلة وهانئة, وكنت اعلم تماما أن الجحيم يعني حرفيا أن نضطر للعودة إلى القاهرة.. ثلاث سنوات فقط هي التي قضيتها في دبي, قبل أن أغادر القاهرة بأيام كان التاكسي ينطلق في شارع فيصل حين شاهدت سيدة تجلس وسط أكوام القمامة تبحث عن قوت يومها, وقبلها بأيام تحرش بي أحد حيوانات التحرش المنتشرين في شوارع القاهرة, كنت اسير مع أطفالي الثلاثة, في الواقع كنت أجرهم فلم يكن أكبرهم قد تجاوز سنته الرابعة، بينما كنت أحمل الصغيرة البالغة من العمر شهورا فوق ذراعي.. لم اصدق أن امرأة في حالتي يمكن أن تصلح لأن تكون مادة للتحرش, وقفت لاسأل المتحرش باستسلام ويأس: \”ماذا تريد؟\”, الغريب أنه لم يفهم المشهد, وواصل بذاءاته.. أدرت ظهري وتركته وعدت لبيتي في محاولة البحث عن سلام مفقود.

الحنين إلى جحيم القاهرة كان كثيرا ما يراود أحمد زوجي.. أنا افهم هذه الحالة جيدا.. أنا أيضا كثيرا ما كنت اشتاق لهواء المدينة الملوث ومظاهرها العشوائية وثقافتها الشعبية المتمادية في التدني, لكننا كنا نقاوم كل ذاك الحنين بالاستمرار في غربة لطيفة.. ألطف من الوطن.. نريد أن نربي ابناءنا, تمضي الأيام في اتجاه مستقبل لا نملكه، لكن هم الذين يملكونه.

كل شئ كان يسير في سلام، حتى قامت الثورة, في يوم موقعة الجمل, كنا نبكي.. حين تحدثنا إلى أصدقائنا في القاهرة، أخبرونا أنهم على استعداد لأن يموتوا في هذه الموقعة.. في المساء حجز أحمد مقعده في الطائرة العائدة للقاهرة, قال لي بوضوح أنه مسافر ليموت معهم.

حين عدنا للقاهرة كان الجحيم حقيقيا وأكبر من أن يتصور, يهدينا الوطن طرقا غير ممهدة لا تصلح إلا كمصائد للموت.. يهدينا مستشفيات استثمارية فخمة تقدم ما يفترض أنه الخدمة الطبية بأموال طائلة, حين تمعن النظر تكتشف أنه لا خدمة طبية ولا يحزنون.. يقدم لنا الوطن الموت مغلفا وأنيقا ونحن نقبله بمحبة, دون أن نسأل أنفسنا مرة: \”لماذا حقا نحب هذا الوطن؟\”

يسألني أبنائي عن الثورة, في غرفة نظيفة وهادئة في دبي.. اجمعهم حولي وأحكي لهم عن الثورة التي ستجعل من بلادنا جميلة حقا كما يليق بها، ويجعل لنا حقا في خيراتها بصفتنا مواطنين.. في القاهرة يتفاجأ أولادي أن مصر لم تصبح جميلة، وأن الأوان لم يأن بعد أن نكون مواطنين ذوي حقوق في بلادنا.. انقضت أربع سنوات في جحيم الوطن, بعدها صار حمزة الذي لم يتجاوز عامه الحادي عشر يفكر في آليات الهجرة لبلاد أخرى في المستقبل.

هكذا هي الثورات, صراع حقيقي يطحن ولا يذر, أتون نار لاهبة تطهر ما تعفن بالبقاء طويلا في حضن الفساد, عواصف تطيح بالاستقرار.

اعلم أنني لم أقدم ما يكفي من التضحيات في هذه الثورة, قدم غيرنا أرواحهم وصاروا في عداد الشهداء، وفقد آخرون أعينهم, بينما أصيب غيرهم إصابات بالغة, بينما فقد البعض وظائفهم وأكل عيشهم.. نقبل التضحيات، وكأن أرواحنا قرابين في مذبح الوطن / المستقبل.

وكأن هوة سحيقة تفصلنا عن العالم قبل 2011, وكأن من كانوا هناك لسنا نحن.. أعلم اليوم أنه لن تعود حياتي الهانئة في دبي, ولن يعود الشهداء.. لن تعود أعين من ضاعت أعينهم.. لن تعود براءتنا الأولى التي ملأتنا بهجة حين سمعنا بيان عمر سليمان يبشرنا بتنحي مبارك.. تمضي سنوات العمر سريعا، ولن اعود كما كنت في السابعة والثلاثين.. لن تعود فقاعتي التي أقمتها بحثا عن سلام تسلبه منا دائما المدينة المجنونة القاهرة.. لن تعود سلامتي ولا صحتي التي كانت في أفضل حالاتها.

أما عن الاشياء التي عادت من ذلك الزمن البعيد، كالتعذيب في أقسام الشرطة, كإعلام الرئيس المبجل, كحماقات القضاء الشامخ وأحكامه الانتقامية, كتبشيرات اليوم السابع بعودة جمال مبارك لعالم البزنس وأخيه علاء لعالم السياسة, كرجال دولة مبارك الذين يسيطرون على الدولة وكأنهم كهنتها الوحيدون, تتسرب الأشياء القديمة واحدا تلو الآخر، بينما نحن الذين دفعنا قطعة من أعمارنا ثمنا لهذه الثورة, مازلنا ننتظر ثورة جديدة ربما تكون حقيقية أكثر وقادرة على منحنا الوطن الذي نستحق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top