كانت صديقتي تشك في إصابتها بسرطان الثدي, في مرحلة الفحوصات قالت لي وهي تبكي: \”لا أريد أن أموت واترك ابنتي فهي مازالت بحاجة إليّ\”, وبكيت أنا الأخرى.
كنت طفلة صغيرة للغاية حينما ماتت جدتي, تشبثت وقتها بطرف ثوب أمي ومنعتها أن تذهب دفنة أمها, كان كل ما يسيطر على عقلي الصغير وقتها أن أمي إذا ذهبت للمقابر، فستذهب مع أمها وسيأخذها الموت مني.
لم تذهب أمي بالفعل, فقد أدركت حاجة طفلتها الصغيرة للطمأنينة, لم يقترب بعدها الموت من عالمي كثيرا, ربما كان يخافني، وربما كان يتركني انهل من الحياة ما يكفي لري مستقبل سيكون منهكا بالوقوف بين حافة الموت والحياة.
بعد سنوات صار الموت في قاموسي يعني حدثا عاديا, ربما عودتنا الفضائيات على استقبال أخبار الموت, كنا نصحو على نشرات أخبار مشبعة بالقتلى وننام على حصاد الدم المراق خلال اليوم, وما بين هذا وذاك سقطت مدن وهدمت بيوت, ودمرت أحياء, ربما يكون الموت في مهنتنا هو خبز يومنا، فلماذا نتعجب إن اقترب من أرواحنا.
اقتربت من الموت وابتعدت بفضل الله, لكن تبقى بصمة التجربة في الروح لا تغادر, تسألني سارة بوضوح: \”يا ماما لو متي دلوقتي.. إحنا هنعمل إيه؟\”
يؤرقني سؤالها كثيرا, وحين تناقشت مع صديقتي منال، أخبرتني مازحة: \”هو انتي هتشيلي همهم وانتي حية وانتي ميتة؟\”، فضحكنا.. منحتني مزحتها قدرا من السلام والتسليم، فليقضي الله ما يريد إذن.
تحكي لي لبنى عن الطفل الذي فقد ذويه, لكن الله كتب له حياة أفضل من دونهما.. افرد ذراعي على سطح بحيرة القدر وانام مطمئنة, فالله هو صاحب المصائر وهو رحيم.
افكر في نفسي هذه المرة, لو مت فسأكون أنا من يفتقدهم, تأسرني الابتسامات الصغيرة لنور, واحب تعابير وجهها الجميل, احب مشاغبات حمزة ورجولته الصغيرة, تذوبني سارة في حنانها وعقلانيتها المفرطة، والتي لا تليق بسنها.. اريد أن اعيش مع هذه القلوب الصغيرة التي تزين عالمي, هم من يمنحونني الحياة حقا، فكلما ابتسم أحدهم، انفتح داخل روحي باب للحياة يصارع الموت ويهزمه.
قبل أيام، بدأ حمزة ونور معاونتي في رعاية أبيهم, كما عاونت سارة من قبل في اللعب معه يوميا لعبة تمارين الذاكرة، والتي يوصي بها أخصائي التخاطب.. اشعر أن التجربة تكاد تكتمل, كنت اخاف على الصغار من هول ما عشناه في السنوات السابقة, كان حمزة في السابعة من عمره حين أصيب أبيه في حادث سير, وها هو في الحادية عشر, يدرك جيدا أن من واجباته كصبي تقديم المساعدة لأبيه المريض.
كانت سارة ابنة الثلاث سنوات تجلب سجادة الصلاة وتجلس عليها كي تدعو الله أن يرد لها أبيها، وها هو يرده لها حيا مع تجربة إنسانية فريدة، اعتقد أنها ساهمت كثيرا في انضاجها مبكرا.
لا شك أنهم واجهوا شعورا كبيرا بعدم الأمان حينما علموا أن امهم هي الأخرى تواجه خطر الموت.
في بداية رحلتي مع السرطان، كنت قد حددت مخاوفي بوضوح, إذا كان ثمة ما يخيف في الموت، فهو الغياب، وأنا اريد أن اربي أبنائي بنفسي, اريد أن اعلمهم ما يعتمل في عقلي من أفكار, واتعلم من خبراتهم الصغيرة واشبع عقلي ببراءتهم, اريد أن امنحهم ما اعطتني إياه التجربة.
اسرح كثيرا بخيالي، فاتخيل نور تمر بتجربتها العاطفية الأولى, اشحذ مشاعري لكثير من المساندة التي يتوجب عليّ أن اقدمها لها, أقول لصديقاتي إن فشل العلاقة العاطفية الأولى قدر يبدو وكأنه من سنن الكون, استعد لهذه اللحظة كي تخرج نور من التجربة قوية وبريئة وجميلة كما دخلتها.
اتخيل حمزة وحماقاته التي لا شك سيرتبكها, اتصور عناده واسرح في مشاجرات مقبلة ستجمعنا, كيف سأروض الفتى الذي أوشك أن يكون رجلا.
وافكر في سارة, اتخيل أنها ستكون الأكثر انضباطا, ربما ستغير مسارها بعد سنوات وتقرر أن تكون مشاغبة كأمها, ربما ستتخلى عن التزامها المفرط وتدرك عبثية الحياة, ربما ستتعلم أن تعيش بمزيد من الخفة, اتخيل أنني الأم الوحيدة في العالم التي قد تنصح ابنتها بضرورة كسر القواعد أحيانا.
اريد أن اعيش كي اخوض كل هذه التجارب مع أولادي.. كانت إرادة الحياة هذه هي زادي الذي منحني إياه ابنائي خلال رحلة العلاج, فكلما اردت أن اواصل حياتي معهم، كلما صمدت أكثر أمام صعوبات العلاج.
الآن.. اشعر أن ابنائي ساعدوني كثيرا كي ابقى على قيد الحياة.