(ترجع خصومة الشيخ محمد ود دياب والشيخ القريشابي إلى خمسين عام مضت. حين استفتاهما – وهما بعد شباب – ملك سنار في أمر جارية طلقها.
أفتاه القريشابي بالفقه، ونطق له ود دياب بحكم أهل الباطن.
ثم أصبح القريشابي بعد سنوات فقيهاً ثرياً من أهل الظاهر، بينما صار ود دياب ولياً شهيراً.
وتباعد الشيخان حتى أتت حُسنة بنت قنديل، بعد أن طلقها القريشابي، فوهبت نفسها للشيخ ود دياب. مقابل أن ينتقم لها من القريشابي الذي رفض أن يدفع لها صداقها.)
قالت ميمونة بنت الشيخ خوجلي لنفسها:
– ماذاك الصداق الذي سيضيع مهابة الشيخ محمد؟ أهو ذقن الباشا؟
بثت سؤالها للشيخ محمد ود دياب لما رجع بعد ساعات. أمسكت به ميمونة قبل أن يدخل حجرة حُسنة بشوقه. دخلت به حجرتها وأغلقت الباب. كان قلقاً مما تريد. لا يقدر أن يسمع أي شكوى من سلوك زوجه الصغيرة. يريد أن يدخل إليها فيطفئ شوقه الملتهب. كان متلهفاً كصبي. حبها به كهوس أجرب بالهرش. قال لميمونة بصبر نافذ:
– أجلي ما لديك للصباح. جئت من سفر طويل وأنا متعب.
– يا سيدي أتى المضوي وأنت غائب.
هتف:
– رجع؟
– نعم. جاء يحمل إليك رداً من الشيخ عبد المحسن.
مد يده إليها وقال:
– هاته.
– لم يكتبه يا سيدي. بل ألقاه إليه شفاهة.
– ماذا قال.
– أخبرني أولاً بصداق حُسنة الذي كتمته عني.
– ما كتمت عنكِ شيئاً. أنا أخبرتك كل خبرها.
– لكنك لم تخبرني بقيمة صداقها الذي سيجر علينا ما نحن في غنى عنه. كم هو؟ إن كان شيئاً يمكننا دفعه لها فلنفعل ونتقي شر النزاع.
– الحق حق يا ميمونة. كثر أو قل.
قالت متوسلة:
– أخبرني فقط كم هو، ثم نقرر بعد ذلك.
قال بصدق:
– وحق أبيك، وحق الشيخ الجيلاني لا عرفت ولا سألت. إنما هو حق حُسنة أجبرها أن تنزل عنه ليطلقها. وما كنت لأرد صاحب مظلمة ولو في خيط دمور.
قال في ألم:
– بل ما كنت تترك حق حُسنة ولو كان بصقة في كف.
– لا أحب أن أسمع هذا الكلام.
– وما كنت تترك ثأراً عند الشيخ عبد المحسن يحول بينك والكمال.
– لا أحب أن أسمع هذا الكلام.
– يا سيدي لو طبت نفساً لوهبك ربك ما تتمنى. فمذ كم وأنت تطلب إحياء الموتى وعلم الغيب ويردك ربك؟ فلماذا تفسد على نفسك كمال الولاية بصغير أمر الدنيا.
– لا أحب أن أسمع هذا الكلام يا ميمونة، فحسبك. قولي ما أخبرك المضوي.
أعادت على مسامعه ما أخبرها به المضوي. نطقته ببطء كأنها ترجمه به حرفاً حرفاً.
الشيخ محمد كان يتلوى مع كل كلمة يسمعها. ثم انتفض صائحاً وقد طاش صوابه:
– أقال يخرجني من مسجدي ككلب السقا؟
– هكذا نقل المضوي.
– دعيّ قريش يهددني! هذا الذي لا يعرف نسبه ويدعي الشرف يتوعدني أن يخرجني ككلب السقا؟ لا أصبحت إن بات في مسجد الباشا.
قفز إلى باب الحجرة ففتحه وافلت خارجاً. جرت ميمونة خلفه تناديه لكنه دخل حجرة حُسنة مسرعاً وأغلق الباب. وقفت ميمونة أمام الباب تطرقه. وتناديه متلطفة:
– اهدأ يا سيدي. تعال كلمني لنفكر.
لكن صوته أتاها من وراء الباب يقول بغلطة:
– ارجعي لحجرتك يا امرأة. مضى أمر الله.
– يا سيدي!
انفتح الباب فهمت بمواصلة الكلام لكنها رأت حُسنة تسد الفرجة. قالت لها في جفاء:
– الشيخ متعب فدعيه الآن.
تراجعت ميمونة إلى الوراء وحاولت النظر من خلف جسد حُسنة الذي يسد الباب. صاحت بعلو صوتها لأول مرة منذ تزوجت:
– يا سيدي. أمر مر من خمسين عاماً. أخطأت فجبر الله خطأك وغفر لك. فدع ما حدث.
أزاح الشيخ محمد حُسنة عن الباب وبرز إلى ميمونة صارخاً:
– وحق أبيك لأصيبنك بدعوة لا تخطئك. لا تعودي إلى ذكر ذلك.
– يا سيدي!
– المرأة لا تخذل زوجها. لا تخطئه. قلبي ساخط عليك يا ميمونة بنت خوجلي ما بقيت.
وقبل أن تجد فرصة للكلام تراجع إلى الحجرة وصفع الباب بقوة. ثم سمعت صوت الرتاج الخشبي يغلق بعنف.
رجعت إلى حجرتها مذهولة. لأول مرة ترفع صوتها على زوجها لبضع وأربعين عاماً.
تزوجها وهي في الثانية عشر من عمرها. أتاها الحيض وهي في كنفه. وفي أول ليلة رأت الدم فزعت وخشيت أن يغضبه ما نزل منها. لكنه احتضنها في سرور وقبّل رأسها قائلاً:
– يا حبيبتي من اليوم ستكون الحياة غير الحياة.
أحسن معاشرتها وعرفته رجلاً ليناً طيباً لا يقول إلا خيراً. ما سمعته يدعو بشر على أحد قط. كان إن أتاه مظلوم يطلب منه الدعاء على من ظلمه يبتسم ويقول:
– فهل لك في خير من ذلك؟
ثم يدعو للظالم بالهداية، وللمظلوم بالإنصاف وشفاء الصدر.
كيف تحوّل الولي السبعيني إلى غلام نزق يعميه الانتقام عما سواه؟ أي شر بثته تلك الصبية حُسنة في الشيخ مستجاب الدعوة؟ الرجل الذي يمشي على الماء غرق في بحر حُسنة بنت قنديل ! من أي باب شر دخلت الصبية حياتنا؟
شهقت وصاحت:
– لا إله إلا الله ! ما هذا الشر الذي أفكر به.
استغفرت ربها مراراً حتى هدأت. مسحت دموعاً سالت على غفلة منها. قالت لنفسها:
– البنية مسكينة. صغيرة ونزقة. لم تكسبها الأيام حكمة بعد. وما عرف قلبها درب الله. حوجتها لدعاء صادق أكثر من استحقاقها للعتاب.
جرّت ثوبها ولفته حول رأسها. مشت نحو فروة الصلاة ووقفت بين يدي الله. نوت أن تصلي لله ليلتها وتدعو لحُسنة بنت قنديل في سجودها. تطلب من الله أن يهدئ سرها ويزن طيشها.
وكانت حُسنة في حجرتها تتمادي في ذاك الطيش إلى مداه. صاح بها الشيخ محمد ود دياب:
– هاتي لي فروة الصلاة.
فجرت دون أن تمس قدماها الأرض تحضرها مستبشرة. قالت في سعادة:
– ستدعو عليه يا شيخ محمد؟
– لأصيبنه بدعاء يتصاغر جواره دعاء نوحِ على قومه.
زغردت بصوت خافت وملأت ابتسامتها وجهها وهي تفرش الفروة:
– بارك الله فيك. يا جابر كسر المستضعفات.
وقف الشيخ محمد على الفروة بعجل وقلبه يصخب بالغضب. وما أن كبّر الله حتى غاب عن الدنيا. طارت من حوله جدران الغرفة واختفت حُسنة.
رأى نفسه بوادٍ مجدب. ما به إلا شجيرات طندب يابسات. هتف:
– يا رحمن يا مغيث. برحمتك أستغيث.
سمع المنادي يناديه من خلفه.
– يا محمد ود عيشة.
التفت منزعجاً فما رأى منادياً. صاح:
– أنا الشيخ محمد ود دياب.
لكن الصوت أتاه من خلفه.
– يا محمد ود عيشة.
استدار مسرعاً فما رأى أحداً. صاح:
– أنا الشيخ محمد ود دياب. تاج العارفين.
– يا محمد ود عيشة.
التفت خلفه لكنه ما رأى أحداً.
– أنا الشيخ محمد ود دياب سراج الأولياء.
– أناديك باسمك الذي تنادى به يوم القيامة، يوم يُعرض عمل الخلائق.
نظر ناحية الصوت فرأى الخضر عليه السلام بعيداً بين السماء والأرض.
– يا صاحب المنزلة! أيها العبد الصالح! العبد المسكين محمد بين يديك.
قال له الخضر:
– انت يا محمد ود عيشة تريد أن تدعو ربك دعاءً ما دعاه نوح على قومه؟
– يا سيدي أنا أغيث المظلوم.
– يا محمد ود عيشة عبد المحسن عبد ما لك به قدره.
– أطلق يدي يا سيدي.
– يا محمد ود عيشة عبد المحسن عبد ما لك به قدره.
– امنحني دعوتي يا سيدي.
– يا محمد ود عيشة فإن نلت دعوة على عبد المحسن يحرمك ربك بعدها الاستجابة.
صاح بلا تردد:
– قبلت يا سيدي.
صمت الخضر. وقف الشيخ محمد يعلق بصره به ينتظر رده.
– امشي معي.
فوجئ بالخضر إلى جواره يكلمه. مشى معه صامتاً.
قال الخضر:
– أنا مأمور أن أسألك. هل تريد أن تدعو عليه بالغرق أم الحرق أم المرض.
صرخ الشيخ محمد في جنون:
– الحرق.
– كذلك أخبرني ربي.
لم يعرف كم مشى ولا إلى أين في جدباء ممتدة. حتى وقفا على عين ماء. قال له:
– ادع دعوتك. ثم اشرب من هذه العين تطفئ نار قلبك. بعدها لا يكون في قلبك لعبد المحسن موجدة. وبعدها لا يكون لك عند ربك دعوة مستجابة.
– ودعوتي على عبد المحسن؟
– تحصل قبل الفجر.
رفع الشيخ كفيه هامّاً بالدعاء. لكن الخضر أشار إليه.
– انتظر حتى أذهب.
نظر إلى عينه ملياً. قال:
– أراك عند حوض النبي يا محمد ود عيشة.
ثم ذهب.
المرة الأخيرة التي يلتقي فيها الخضر. لن يراه بعدها. ما أحس بتلك الفاجعة إلا حين استفاق وألفى نفسه جالساً على فروته وقد ألقى السلام من صلاته. حُسنة تقف عند رأسه. وجهه مبلل بالدموع التي تسيل على لحيته. وفي فمه طعم الماء كشهد الجنة.
قالت له جذلة:
– تقبّل الله منك يا شيخ محمد.
– تقبّل الله يا حُسنة.
سألته في نهم متوحش:
– بما دعوت ربك؟
– أن يُسلط عليه النار فيجعله آية.
– وقاك الله شر النار يا شيخ محمد.
قام من فروته متكاسلاً. استند عليها وقال:
– قوديني إلى الفراش. لا أجد قدرة للوقوف.
أمسكت ساعده واحتوته بذراعها وذهبت به ناحية الفراش. تمدد عليه منهكاً. قال وهو يلهث:
– سأنام ما شاء لي ربي. لا توقظيني.
– صلاة الفجر يا سيدي.
– ليقض الله أمراً كان مفعولاً.
نام الشيخ محمد ود دياب نوماً طويلاً بلا أحلام. أغمض عينيه. أحس بمرور الزمن ثقيلاً كريهاً على روحه. لكنه لم ير سوى الظلام التام. وحين فتح عينيه كانت الشمس قد قاربت الزوال. نهض متثاقلاً. قال لحُسنة:
– خذيني إلى حجرة ميمونة.
لم تجادله. أعانته ومشت به إلى الحجرة الأخرى. فزعت إليه ميمونة. تناولته منها وهي تردد:
– لا بأس عليك يا سيدي. ما فيك بالجبل. ما فيك بالخلاء والحجر.
– قوديني إلى الفراش يا ميمونة. أنا متعب.
ارتمى على فراش ميمونة وسالت دموعه في صمت. لم يقدر على النهوض لدرس ولا صلاة. حتى حاجته بات يقضيها في مكانه بمعونة ميمونة. أربعة أيام مرت، احتجب عن تلاميذه وحيرانه. أوصى المضوي بالتدريس. وفي اليوم الخامس جاء الخبر من المدينة.
حمله العابرون كشائعة في أول النهار. ثم أكده غيرهم في منتصفه. وبعد المغرب جاء آخرون باليقين.
دخل المضوي بالحكاية إلى سيده. وقف بين يديه، وخلفه تقف ميمونة. أما حُسنة فقد علمت أن في الأمر شيء فجاءت متسللة ووقفت غير بعيد تسمع.
قال المضوي:
– قالوا يا سيدي إن الشيخ عبد المحسن ود حمد نام قبل أيام دون أن يطفئ السراج. فبعث الله فأرة فضربته بأمر الله. انكفأ السراج والشيخ نائم.
قطع المضوي حديثه. نظر إلى شيخه ساكناً يسمع كأن الأمر لا يعنيه. فقط أومأ بعينيه وأشار إليه أن أكمل.
قال المضوي:
– شبت النار في حجرته. وأمسكت بزينة القماش والكتب. سمع الفقرا هسيس النار ورأوها من خلف الخشب فاندفعوا لنجدته. كسروا الباب لكن النار حجزتهم خارجاً. من بين اللهب رأوا الشيخ عبد المحسن يصرخ والنار ممسكة بثيابه. كان يصرخ حزناً على كتبه النوادر. صاحوا به وقد فرحوا أنه بعد حي. نادوه ليأتي ناحية الباب. لكنه ظل يصرخ حزناً حتى غيبته عنهم النار والدخان. هرعوا بالماء لكن الحريق كان يعجزهم مغالبة. ما قدروا أن يفعلوا شيئاً حتى ظهر الصباح وهدأت النار بعد أن أتت على الحجرة وما بها من كتب.
صاحت حُسنة من خلفه بلهفة:
– والشيخ عبد المحسن؟
صمت المضوي. وقالت ميمونة بوجع:
– رحمه الله.
– ليرحمنا الله جميعاً يا أم الفقرا. للخبر بقية.
– ماذا حدث؟
ابتلع المضوي ريقه، وقال في خفوت:
– في الصباح حين هدأت النار مشى إليهم من وسط الرماد الأسود الشيخ عبد المحسن سليماً كمئذنة جديدة. ما مسه من النار إلا شيء يسير في طرف ثوبه. خرج حزيناً لا يقول إلا \” لله الأمر. ضاعت كتب الفقهاء ومحصول المحدثين \”. كان يحمل في يده كتيباً صغيراً ما بقي غيره من النار. رسائل الحلاج الحسين بن منصور. أما الفقرا فطاش بالسرور عقلهم. وذاع الخبر في المدينة، وأتاه أهل الله عجلين فألبسوه المرقّعة بأمر الخضر.
رفع الشيخ محمد بصره بحده. بدا مصدوماً. قال بصوت واهن:
– الخضر أمر بإلباس عبد المحسن ود حمد مرقّعة الصوفية؟
– وقال أهل الله إنه خليل الله أنجاه من النار.
– عبد المحسن ود حمد خليل الله؟
اندلق على الحجرة صمت قاسِ. كأنها البلد الحرام وقد فرغت الأبابيل من رمي جيش الفيل. سكون تام.
أطبق الشيخ محمد ود دياب يديه على صدره. قال:
– ربنا يبارك له.
وأشار لهم أن اخرجوا.
فرّت حُسنة إلى حجرتها. ورجع المضوي إلى المسجد. وجلست ميمونة على الأرض عند باب الحجرة تنتظر أمر زوجها.
لكنه مات في صمت عند الفجر.
ذهبت روحه في هدوء. ولم يحضرها أيّ من أهل الله الأحياء أو الأموات. وحده حمل أعماله ومضى إلى ربه. ما معه سوى سبعين عاماً وولاية انقطعت.
كان آخر ما قاله دون أن يسمعه أحد:
– أراك عند حوض النبي أيها العبد الصالح.
لم يعلم به بشر إلا حين تسللت ميمونة على أطراف أصابعها ظهراً لتطمئن عليه. صرخت حتى أسمعت المدينة البعيدة. فزع الفقرا في مسجد الباشا. لكن الشيخ عبد المحسن إمام الأولياء قال لهم في حزن:
– اثبتوا. هذا عبد من عباد الله ذهب.
ثم رفع كفيه:
– سلوا لأخيكم محمد ود دياب العافية. فإنه يأتي ربه وحده
قصة نشرت في مجموعة (النوم عند قدمي الجبل) – دار ميريت
(يتبع)