(التقى مضوي بالشيخ عبد المحسن القريشابي، وأوصل إليه رسالة شيخه محمد ود دياب التي يهدده فيها إن لم يدفع لحُسنة بنت قنديل صداقها.
لكن الشيخ القريشابي قابل التهديد بالتهديد. وحمّل المضوي رسالة شفاهية لشيخه، بعد أن حذره من خطر حُسنة.
رجع المضوي بالرسالة إلى شيخه، وأبلغ بها زوجه الكبرى، ميمونة بنت الشيخ خوجلي، أم الفقرا.
أحزنت الرسالة ميمونة، وشرعت تتذكر أصل العداء بين زوجها والشيخ القريشابي.
تلك خصومة ترجع إلى زمن قديم.)
ما من أحد في البلاد لم يعرف أن الشيخ محمد والشيخ عبد المحسن بينهما من الخصومة شيء كثير. لكن قلة قليلة كانت تعرف السبب. وما عاد يذكر من هؤلاء العارفين إلا بضع أشخاص. تكفلت أعوام قاربت الخمسين بنسيان التفاصيل. وما بقي غير علم الناس بخصومة لا يدرون من أين أتت.
حدث ذلك في زمان قديم. قبل قدوم الباشا. كانت البلاد تحت حكومة ملوك الفونج. نزلت بالملك نازلة فبعث يطلب أفقه أهل البلاد وأعظم أولياء الله. دله بعث الفقيه على الشيخ عبد المحسن. وجاء بعث الولي إلى والدها الشيخ خوجلي. لكن والدها قال للشيخ محمد ود دوليب الذي كان شاباً من نجبائه:
– الملوك أنا ما بدخل عليهم. لا يريدونني ولا أريدهم. وأنا كبرت وعمري جاوز التسعين، أي شيء أفعل في بلاط الملوك؟ لكن أنت لك سمت الرياسة. فإن أوقع الله الرضا عنك في قلب الملك نلت الخير.
وقبل أن يخرج أوصاه:
– يا ولدي! احذر مكر الله وسفه الملوك. فالملوك كالأطفال إذا غضبوا وإذا رضوا. جناح جبرين يغطيك.
ركب الشيخ محمد ود دوليب معية المبعوث وقصد الملك. دخل عليه والشيخ عبد المحسن وحدهما وانصرف المرافقون، فألقى إليهما الملك بخطبه. قال:
– الخادم مريوم أنا تزوجتها من أسبوع. لكنها أغضبتني وجرى بيننا كلام مما يقع بين الرجل وأهل بيته. فأغراني الشيطان فطلقتها ثلاثاً. وأنتما أهل العلم والولاية، فأنا أريد منكم أن تفتوني ماذا أفعل.
ثم تهدج صوته وقال كالمتوسل:
– الخادم أنا أحبها. ولو ما رجعتها إلى ذمتي أموت.
تقدم الشيخ عبد المحسن بزهوه ورفع رأسه قائلاً:
– أنا الشيخ عبد المحسن ود حمد، ينتهي نسبي لعلي زين العابدين بن الحسين سبط رسول الله. درست الفقه في الأزهر والحرم والقيروان والجزيرة الخضراء. وحفظت الأصول والحواشي ونلت عالي الأسانيد، أفتيك بما قال الله تعالى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. وقال ابن عرفة \” لو زوجها لعبده ليسأله طلاقها بعد وطئها حلت به \”.
قال الملك متوثباً:
– أنت مجنون يا فقير؟ أنا أحبها فإن لمسها غيري أموت.
– لا أعلم لك في الفقه سبيلاً غيره يا من نُجِل.
صمت الملك مفكراً. ثم توجه بالسؤال للشيخ محمد ود دياب.
– وأنت يا فقير ماذا ترى؟
– أنا يا من نُجِل ما رجل قالوا وأخرجوا. أنا تلميذ الشيخ خوجلي بن دفع الله رضي الله عنه. وأنا من جهة أبي حسني ينتهي نسبي إلى الحسن بن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. فنحن لا نحكي حكايات أهل الورق.
قال الملك في ضجر:
– علمنا نسبك يا فقير. هل ترى ما يراه هذا؟
– يا من نُجِل أنا أزوجك بها حلالاً.
صاح الشيخ عبد المحسن:
– وكيف يكون ذلك؟ تخالف شريعة الله؟
قال الشيخ محمد دون أن ينظر إليه:
– شريعة ربنا ما يعرفها مثلك. أنا الرسول أذن لي في ذلك.
بدا القلق على وجه الملك. نقّل بصره بينهما لوقت. ثم قال للشيخ عبد المحسن متلطفاً:
– يا فقير! سمعت ما يقول صاحبك. فلو أكملت لي طمأنينتي وأفتيتني بزواجها.
قال الشيخ عبد المحسن بانقباض:
– لا أجد لك إلا أن تزوجها غيرك ثم يطلقها فتحل لك.
– فأنا أعطيك ألفي دينار إن أفتيتني بالحل.
هتف الشيخ عبد المحسن غاضباً:
– أنت سفيه.
بهت الملك وتراجع، وأكمل الشيخ عبد المحسن في حدة:
– تريد أن تحل ما حرّم الله وتشتري الفقيه بمالك؟
فار وجه الملك بالغضب. هب من كرسيه واقفاً وبدا إنه سيثب على الشيخ عبد المحسن فيضرب عنقه. لكنه تمالك نفسه. رفع يده فنزل الصمت بالمكان.
– خلاص. انت يا فقيه قالوا وقالوا كتّر خيرك. باكر ترجع لأهلك.
ونظر إلى الشيخ محمد ود دياب وقال:
– وانت يا فقير! باكر تزوجني مريوم وأنا في ذمتك يوم القيامة. ولك ألفي دينار وعهد أن تدخل عليّ متى شئت.
ثم نادى بعلو صوته الحرس. اندفعوا داخلين فأمرهم أن يقودوا الشيخين إلى حجرات الضيافة، قال:
– الفقرا أحسنوا ضيافتهما. وباكر يحضر هذا الفقير وتدعوا معه الناس. أما هذا فمن الصباح ترجعوه محل كان.
خرج الشيخان معية الحرس. وبات الشيخ محمد ليلته ينتظر الجاه الذي ينزل صباحاً. لكن مقادير الله جاءت بغير ما يظن.
دخل الملك ليلتها على حريمه مهموماً يخشى عاقبة ما سيقدم عليه. فتلقته أم العيال الست حليمة زوجته الكبرى وأم ولي عهده. لاطفته ولانت له وسألته عما يشغله. باح لها الملك بالقصة. فانزعجت أم العيال. قالت له:
– أما كفاك تزوجت الخادم وقلنا يتكلم الناس ويسكتون فتريد أن تجمع على ذلك إشهار الزنا؟
– الفقير الحسني قال إن الرسول أذن له.
– الفقير الحسني يقول أكثر طالما علم أنك تجزل العطاء. لو قلت له أنا أتزوجك الآن وأجزيك ملكي لقال لك أذن لي محمد وعيسى وموسى وشعيب!
ومازالت به أم العيال تراجعه وتوبخه حتى انقلب رضاه المتشكك رفضاً. ثم تبعت ذلك تقول:
– الفقير الذي عصاك وعاندك رجل صالح. يخاف الله ولا يخافك. هذا تكافئه على ثباته فيعلم الناس أنك تقدّر الشجعان وأهل الدين. والفقير الذي نافقك هذا رجل سوء. يخافك ولا يخاف الله. هذا تكافئه بالجلد حتى يبول.
تمنع الملك قليلاً ثم لان. وعدها أن يفعل غداً. أما مريوم فقالت له بشأنها:
– مريوم خادمك ولا تملك أن ترفض. فإن أردتها فاستتر بالحرام. وإن شئت غيرها جلبت لك من الخدم من هن أحلى منها وأصبى.
قال الملك:
– الحرام لست من أهله. فلعل الله يبدلني خيراً منها.
– وأنا آتيك في أيامك هذه بخير منها إلى أن يبعث الله لك.
هكذا، في غده ساق الحرس الشيخ محمد ود دياب والشيخ عبد المحسن ود حمد إلى حضرة الملك. ينتظر أحدهما جوائزه ويتعجب الثاني لماذا أحضر. ثم ذهلا لما نادى الملك:
– يا حرس! الشيخ عبد المحسن يثاب على شجاعته ودينه، أعطوه خمسة آلاف دينار، وعهد الدخول عليّ متى شاء، ولا يأتيني في شفاعة إلا قضيتها له. والشيخ محمد يثاب على نفاقه جلداً بالعصا حتى يبول.
ضرب الذهول الشيخ محمد. أفل نجم حظه دون إنذار. وبدا له الهلاك موشكاً. لولا أن قفز الشيخ عبد المحسن صائحاً:
– يا مولاي أنا أشفع فيه.
وقف الملك حائراً. نظر إلى الشيخ عبد المحسن وقال:
– تشفع فيه وقد فعل ما فعل؟
– يا مولاي وهل الشفاعة إلا لأصحاب الذنوب؟ وما عظم ذنب إلا وعظمت شفاعته وعظم قدر العافي عنه.
الشيخ محمد كان يرجف في مكانه. ينتظر أن تٌخسف به الأرض أو ينادي المناد. لكنه بكرامة نجا.
عفا عنه الملك فخرج لا يصدق سلامته. فما انتظر الحرس أن يعودوا به بل قذف نفسه في الخلاء يبحث عن طريق العودة وحيداً.
أصابه الإعياء وأوشك على الموت جوعاً وعطشاً. مشى تائهاً تسع ليالٍ وعشرة أيام. تلقاه في مسيره منادٍ غاضب. ناداه من تبة بعيدة:
– أنت يا ود دياب تكذب على رسول الله تقول أذن لك؟
تجاهله ومضى في توهانه. لكن المنادي عاود الظهور.
– أنت يا ود دياب تظن الولاية بالكلام؟
تجاهله وسعى في ضياعه. لكن المنادي عاود الظهور.
– أنت يا ود دياب تحل ما حرّم الله؟
توقف وصرخ:
– تبت ! تبت !
فصاح المنادي:
– قول الثالثة وأنا أوصلك أهلك سالماً.
– تبت.
أشار المنادي إلى جبل بعيد. قال له:
– امشي هناك. بعده اتبع الشمس تصل. ولا تقل لأحد إن الخضر أنقذك.
لم يعرف أحد كيف وصل الشيخ محمد ود دياب بلا زاد. وجدوه متهالكاً على سور مسجد الشيخ خوجلي. حملوه وأدخلوه على غرفة الحيران. بقي مريضاً لشهر. كلما سأل عنه الشيخ خوجلي قالوا له إنه غائب بالحمى. ثم قام من مواته كعزير.
هب من مرضه وما به إلا بغض الشيخ عبد المحسن القريشابي. أسر لشيخه خوجلي بما حدث دون نقصان.
قال له الشيخ:
– يا ولدي قلت لك الملوك كالأطفال. أنت لا ينفعك إلا طريق الولاية فأنا أعطيك العهد.
– أغثني به يا سيدي.
– لكن شرطي أن أزوجك بنتي ميمونة. أنا ربي كلمني أنها لن تنجب ذكراً ولا أنثى. والرجال لا يصبرون على امرأة لا تلد. أزوجها لك بعهد الله أن لا تطلقها ما حييت. وتكرمها ما بقيت.
– قبلت يا شيخي.
– مد يدك يا ولدي تأخذ العهد.
ورث عن شيخه الولاية وكمال العرفان. ما عادت ترد له دعوة. يمشي على الماء، ويبرئ السقيم ولا تدلغه عقرب ولا ينزل على جسده الطاهر ذباب. ويأتيه الكشف من الله على فترات.
ناداه منادٍ يسمعه ولا يراه:
– يا شيخ محمد لو سلم قلبك من ناحية الفقير عبد المحسن لملكت علم الغيب وإحياء الموتى.
حاول أن يشفي قلبه لكنه ما قدر إلا على شيء من النسيان. وكلما استيقظ صباحاً وحاول النظر في صحف الغيب فما رأى شيئاً علم أن قلبه مازال به ما به.
حتى أتته حُسنة تسعى.
بعد نحو خمسين سنة من الكراهية. تبدلت فيهن البلاد، وتغيرت الديار. باد ملك الفونج وجاء الباشوات. نشأت أممٌ وهلكت أختها. رفع الله أقواماً وخفض آخرين. لكن الشيخ عبد المحسن ود حمد واصل الارتفاع.
دعاه الباشا مع جماعة من الفقهاء ليسألهم عن حكم مصادرة أرض ملوك الفونج. فأفتى كل الفقهاء بحرمة ذلك وأنه لا يجوز للباشا أخذها إلا بحقها. أما الشيخ عبد المحسن فخالفهم. قال إن الأرض كانت دار النوبة وغصبها الفونج. والآن ذهب ملك النوبة والفونج. فيحل للباشا أخذها والتصرف فيها كيف يرى مصالح العباد.
خشي الباشا أن يستجيب لفتوى شيخ وحيد فبعث إلى مصر يسأل سيده ويستفتى شيوخ الأزهر. وما هو إلا شهر حتى أتاه الرسول يحمل أمر المعظّم أن يمضي في المصادرة، وفتوى الأزهر أن الأرض تحل له بعد أن غصبها الفونج من أهلها. وحملت فتوى الأزهر في ذيلها:
– الشيخ البربري الذي أفتاك لا يكون إلا عالماً مبصراً بدقائق الشرع ويحسن التوقيع عن رب العالمين.
ضحك الباشا سروراً وردد:
– مظبوط.. مظبوط. الشيخ عبد المحسن يوقع عن رب العالمين.
فعلا نجم الشيخ عبد المحسن وارتفع. وناله من رضا الباشا أعظم من رضا ملوك الفونج. حتى ركن للدعة وما عاد يجلس للدروس. إنما ترك ذلك لكبار تلاميذه. ولا عاد يحرص على صلاتي الفجر والعصر، فينام عنهما ما بال الشيطان على عينيه. لكن صيته ما قل ولا فتر. وما ذكر عنه الناس إلا إنه سلطان الفقرا وأهل الله. يخشاه الشيوخ والأمراء قبل العامة. إلا الشيخ محمد ود دياب فما كان يخشاه ولا يحسب لمكانته حساباً. وبينهما من الكراهية القديمة ما لا يذكر أحد له سبباً.
فالآن كل هذا يعود لأجل حُسنة وانتقامها.
قالت ميمونة بنت الشيخ خوجلي لنفسها:
– ماذاك الصداق الذي سيضيع مهابة الشيخ محمد؟ أهو ذقن الباشا؟
قصة نشرت في مجموعة (النوم عند قدمي الجبل) – دار ميريت
(يتبع)