حمّور زيادة يكتب: حكاية حُسنة بنت قنديل وما جرى بسببها (2-6)

(وهبت الشابة حُسنة بنت قنديل نفسها للشيخ محمد ود دياب، الولي الصالح، والعابد المجتهد. زوجةً على سنة رسول الله. مقابل أن ينتقم لها من خصمه القديم، الشيخ عبد المحسن القريشابي، الذي طلقها وحرمها صداقها.

وبعد شهر من الزواج طالبته بوفاء وعده، فأرسل الشيخ ود دياب في طلب تلميذه المضوي.)

وعده الذي وعد واجب النفاذ. وحُسنة ما عادت تجد للصبر مكاناً. وحين لفت ذراعها حوله وقالت :

– أنت سيدي. ما تزوجتك إلا رغبة فيك.

قرر أن يرمي تأنيه ويشرع في انتقامها. داعبت بأصابعها لحيته الحمراء بالحناء فخرج صوته راجفاً :

– غداً أنظر في أمر عبد المحسن.

لمعت في عينيها بيارق النصر لكنها غطتهم سريعاً بمسحة دلال وقالت:

– دعنا منه ولا تذكر لعدونا اسماً في هذه الليلة. فلنكمل ستة وثلاثين ليلة من الهناء بلا هموم.

جذبته من يده ودخلت به ساحة الرضا حتى أُترع.

في غده بكّر بالبعث في طلب المضوي أنجب حوراييه. أتاه عجلاً في مجلسه في المسجد القديم. وقف أمامه فتأمله الشيخ محمد برهة. جسده الطويل ووجهه الصبوح بالإيمان. قال له :

– أنت حواري ونجيبي. فإن بعثتك إلى خطر تمشي؟

قال المضوي في عزم:

– أفعل ما تأمرني به يا شيخي وإن بعثتني إلى غضب الله.

ابتسم الشيخ محمد في رضا. قال:

– هات اللوح فأنا أريد أن أبعثك برسالة.

– أفعل ما تأمرني يا شيخي.

جاء المضوي باللوح، وتربع بين يديه منتبهاً لما يمليه الشيخ.

عبث الشيخ بلحيته قليلاً، قلّب أفكاره في رأسه، ثم شرع يُملي:

– من عند الشيخ محمد بن الشيخ دياب سليل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

رفع المضوي قلمه عن اللوح، وسأل:

– هكذا بلا بسملة يا شيخي؟

ابتسم الشيخ محمد. قال:

– بلا بسملة يا مضوي. هذه رسالة بتراء كمن ستذهب إليه.

احنى المضوي رأسه وشرع يكتب. قال الشيخ محمد:

– من عند الشيخ محمد بن الشيخ دياب سليل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى عند عبد المطرود. أما بعد، قال الله عز وجل { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}. وأنت خالفت كتاب الله وسنة الرسول وغصبت صداق الحرة. انت ماك عبد المحسن، بل أنت عبد المطرود. والمطرود هو إبليس. فادفع لحُسنة بنت قنديل المعلومة لديك حقها. أو أنا أقوم مقامها في خصومتك. وأنت تعلم من أمري ما لا يمكنك دفعه أو إنكاره. فلو شئت لأخرجتك من مسجد الباشا وجعلتك أحقر من غلام النجار. وأنا أعلم حرصك على الدنيا وطلبك للنعيم، وقد بعتَ آخرتك بدنياك وأنا بدعوة واحدة أُذهب عنك دنياك إن لم تعط المرأة المذكورة حقها. فتكون يا محسور لا حفظت دنيا ولا ترجو آخرة.

طلب من تلميذه أن يعيد عليه تلاوة ما كتب. تفكر فيه. ثم طلب أن يغير \” غلام النجار \” فيجعلها \” كلب السقا\”. محاها المضوي وأوشك أن يكتب ما أمره شيخه، لكن الشيخ محمد استمهله ثم قال:

– بل دعها غلام النجار، فذلك خير من أن يشكو أني قلت له يا كلب. وغلام النجار محتقر بما يكفي.

أعاد المضوي كتابة ما محا. ثم صب على اللوح حفنة من رمل وهزه ليثبت الحبر.

قال الشيخ محمد:

– اذهب باللوح إلى عبد المحسن ود حمد المدعي أنه قرشي. ولا ترجع إلا بجواب منه.

لم يتردد المضوي لحظة. قفز واقفاً محتضناً اللوح ومشى في حاجة شيخه.

المضوي كان يعرف – ككل أهل الجزيرة سلانج – إن ما بين شيخه والشيخ عبد المحسن خراب لا مودة فيه. والرسالة التي يحمل كفيلة بحرق قلب الشيخ عبد المحسن فربما أصابه من غضبه شيء. لكن المضوي ما كان ليتردد في طاعة شيخه.

\”أفعل ما تأمرني به يا شيخي وإن بعثتني إلى غضب الله\”. المضوي كان أطوع لشيخه من طين لبنّاء. فهو معلمه وأستاذه ومنقذه.

كان المضوي في بدء أمره مراكبياً في مشرع الهوي. يحتال على العابرين وينشغل بالنساء. كان إذا ركب معه شخص أوقف المركب في عرض بحر النيل وحلف بالشيخ عبد القادر الجيلاني أن يُغرق المركب إن لم يدفع له الراكب أضعاف الأجرة المعروفة. فإذا لم يجد من الراكب قبولاً شرع يهز المركب ويصرخ:

– الحين يجي الغرق. يا راكب الموج قول الشهادة. الحين يجي الغرق.

حتى إذا تملّك الفزع من راكبه دفع إليه ما يطلب، فيجيزه المضوي إلى البر الآخر وهو يغني:

الله ليه الهرد كلانا

بالحسار والشوق شوانا

يا أم ضمير النوم جفانا

دُرنا شوف العين كفانا

ويضحك في مرح لا يعبأ بذعر من معه. وما يترك حرة أو أمة إلا وينظر إليها ويرسل غمزاته. فإن أحس منها ليناً تبعها إلى بيتها وإن كانت بنت باشا أو خادم فكي. حتى بعث الله إليه بالشيخ محمد ود دياب قبل أربعة أعوام بلا نذير.

استقر الشيخ محمد في المركب ونظر إلى المضوي في سكينة وقال:

– يا مراكبي! تعال عدي عمّك.

كان الشيخ محمد يسافر وحده عائداً إلى الجزيرة اسلانج قادماً من منزل قاضي الديار. لا يحمل زاداً إلا التقوى، وما معه دليل إلا نور الله.

حين شرع المضوي يجدف داخلاً عرض بحر النيل سأله الشيخ محمد مكاشفاً:

– الحين نعدي أم نغرق؟

ذهل المضوي، لكنه قال لنفسه إنها مجرد مصادفة. ضحك وأجاب:

– كله بأمر الله يا فقير.

ثم لما وصلت المركب ربع بحر النيل أعاد الشيخ محمد السؤال:

– يا مراكبي! الحين نعدي أم نغرق؟

– كله بأمر الله يا فقير.

فلما توسطت المركب بحر النيل هب الشيخ محمد واقفاً فاهتزت. صاح المضوي:

– يا فقير اقعد.

ضحك الشيخ محمد وقال:

– اقعد للغرق؟ أنا ماشي. انت تعال وراي.

ثم رفع ثوبه عن ساقيه وسمّى الله وجاوز حافة المركب. صاح المضوي:

– يا فقير الغرق!

لكن الشيخ محمد مشى على الماء كما الراجل يمشي على درب مسوّى.

ارتعش المضوي وطار عقله. شرع يجدف وهو يهتف:

– يا جيلاني من كل أمر مهلك. يا جيلاني من كل شيطان وجني.

حين وصل إلى الضفة وجد الشيخ محمد يجلس في انتظاره. قال له:

– يا مراكبي! أنا عبد الله أطيع أمره. كنت أقدر أن اسأل ربي فيحملني من بيت القاضي إلى مسجدي، لكن الأمر أتاني وأنا صاحي غير نائم. قال لي تمشي لمشرع الهوي. المراكبي هناك المضوي. تركب معه. فأتيت ملبياً. فلما دخلنا بحر النيل كشف الله لي أمرك. وأعلمني حيلتك. وخيرني أن أغرقك أو أدعوك فتكون من حيراني.

لم يتردد المضوي. ترك مركبه في مكانها وتبع الشيخ محمد ود دياب. لم يرجع إلى أهله ولا بعث إلى والديه. لزم الشيخ محمد ود دياب كظل لعود. تعلم منه القرآن والفقه وعلم الباطن. فما كان ليعصي له أمراً. فإن كان في بعثه إلى الشيخ عبد المحسن القريشابي هلاكه فهو ماضٍ.

مشى يومين وليلة حتى وصل عند المدينة الكبيرة حيث يقيم الشيخ عبد المحسن. دخلها عصراً وأخذ يسأل الناس في الطريق عن مسجد الباشا. دلوه عليه فوجده بناء ضخماً من الحجر الملون. به قبة عظيمة تزينها النقوش. وساحة واسعة مكنوسة ومرشوشة بالماء. وحول المكان مئات الحيران والتلاميذ يقرأون القرآن فيصعد أزيزهم إلى السماء.

دخل المسجد، اغتسل من الغبار وتوضأ وقام يصلي. حين فرغ جلس إلى ركن ينتظر خروج الشيخ عبد المحسن.

قصة نشرت في مجموعة (النوم عند قدمي الجبل) – دار ميريت

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top