حمّور زيادة يكتب: حكاية حُسنة بنت قنديل وما جرى بسببها (1-6)

دفع الشيخ محمد ود دياب باب البيت داخلاً بعد العشاء.

انصرف المصلون. ورفعت الملائكة أعمال الصلاة والذكر. ما تبقى من عبادة ليلته إلا مودة زوجه. ترك قيام الليل منذ وهبته حُسنة نفسها.

كان الشيخ محمد ود دياب قبلاً صوّاماً قوّاماً. كان في بدء أمره مؤذن حيه. ثم ترقى في مقام أولياء الله بالعبادة والبصيرة من أربعين سنة. فصار من أولياء الله وأصحاب الكرامة. ما قُسم له حج. لكن أتباعه من الفقرا يقولون إنه حج طيراناً. صام دهره، وقام -محتسباً- ليله، فما شكت ذلك زوجه ميمونة بنت الشيخ خوجلي. إنما كانت عونه على مُر التعبد. فلما زاره الهناء مع حُسنة ناله من التفريط شيء. لكن عقدة قلبه بقيت على الإيمان.

مر بباب حجرة ميمونة فوقف قليلاً يسمع دقات قلبه. وضع كفه على الباب الخشبي المغلق. تمتم بالدعاء لها. ثم تحرك ناحية حجرة حُسنة. انفلت داخلاً في الظلام. شم البخور الذي يملأ الحجرة فملأه سحراً.

سرى في الظلام يطلب سريرها لكنه سمع الصوت من أقصى الحجرة. وقف جامداً يحاول اختراق العتمة ببصره. لمع الضوء لوهلة ثم مسّ رأس الشعلة فاتقدت. انتثر الضوء في الحجرة فرأى حُسنة جالسة في ركن قصي. ترتدي قميصاً من الكتّان المصبوغ. وشعرها محلول يحف وجنتيها ويكسو عنقها.

هم بالتقدم نحوها لكنها صدته بنظرة. جمع نفسه في مكانه وقال:

– السلام عليكم يا قرّة العين.

زامت بشفتيها دون أن تجيبه، وقطّبت جبينها.

قال مداعباً:

– رد السلام فرض يا حُسنة.

قالت بغيظ بادٍ :

– وحق المستضعفات ضائع يا شيخنا.

تحرك ناحيتها لكنها تحركت في مكانها محذرة فنكص. قال لها:

– ما يزعجك يا حبيبتي؟

– لا تهبني معسول الكلام. فلن ينسني مر فعالك.

خلع عمامته دون أن يحلها وألقاها على الفراش المبعثر. قال لنفسه :

– أتاك يا محمد ما كنت تحاذر!

أخرج قدميه من خفه الجلدي المدبوغ ومشى في الحجرة حافياً. ارتاحت قدماه لملس الحصير المخصوف. وقف أمام صندوق ملابسه وفتحه. خلع جلبابه وحشره به. عاد إلى الفراش وجلس. مد رجليه إلى أقصاهما وقال :

– أي جرم أتيته لأستحق غضبك؟ هل تشاجرتِ مع ميمونة مرة أخرى؟

هرّت كقط غاضب، وهتفت :

– لا تذكرها أمامي.

ميمونة بنت الشيخ خوجلي كانت قد وهبت أيامها طوعاً لحُسنة. ولمست – منذ أيامها الأُول – رفض العروس الصغيرة للخدمة، فقامت بها راضية. كانت تحمل عصيدة الدخن وقدح اللبن الى باب حجرة حُسنة. تضعهما على الأرض، تطرق الباب، ثم ترجع إلى حجرتها لتقوم ليلها. لكن حُسنة كانت تناوشها بالشجار كلما سنحت فرصة. فرب آية تُسمع من حجرة ميمونة تُتلى تثير سخط حُسنة فتثور كهبوب الخريف.

تسلل – مرة – من حجرة ميمونة صوتها تتلو { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ }، فحطمت حُسنة مشط الكهرمان الذي اشتراه لها الشيخ محمد من تجار أعاجم في سوق شندي. وقالت مغاضبة إن ميمونة تلمزها بالقرآن. هاجت ليلتها حتى أصبحت باكية تنعي بؤسها. وما رضيت حتى أتاها الشيخ محمد بمشط كهرمان آخر ومرايا هندية ذات نقوش. حُسنة مليحة كأنما إسمها وصف صادق. لكنها حادة الطباع سليطة. يقول الشيخ محمد مواسياً نفسه وراداً على نظرات ميمونة المعاتبة :

– للشباب في النفوس زهو.

قالت له :

– منذ كم تزوجتني يا شيخ؟

قال الشيخ محمد وهو يحاذر :

– مر نحو شهر من الهناء أو يزيد.

– خمسة وثلاثون يوماً يا شيخ.

– كلهن أيام مباركات يا حُسنة.

هبّت من مقعدها وقالت في غيظ :

– فأين ما وعدتني؟ وهبتك نفسي دون مهر أو صداق على أن ترد لي حقي من عبد المحسن.

نكس الشيخ محمد رأسه وقال في خفوت :

– ما نسيت يا حُسنة.

– بل تناسيت. قلت قد قضيت مأربي من البنية المهيضة. لا أهل لها ولا عز. فلا حوجة لقضاء وعدي.

– وعدي على رقبتي سيف يا حُسنة.

قالت بسخرية :

– على رقبتك سبحة من اللالوب يا شيخ محمد. أما وعدك فأكلته الأيام.

في ليلة كهذه طرقت حُسنة بابه.

نادت بصوت هامس، فأتاها الجواب بالدخول. دلفت إلى البيت متشحة بثوبها الأزرق وسكينتها.

ألفت الشيخ محمد ود دياب جالساً على فروة صلاته. مربوع القامة، مايلاً للقصر، أسمر اللون. في أنفه كبر، كثيف اللحية، تكاد كل شعرة من شعراتها تنطق وتقول هذا ولي الله حقاً. رأسه مرجلة، يرتدي جلباباً مرقعاً بالتقوى وألوان متنافرة. من عنقه تتدلى مسحبة من اللالوب. وعلى منضدة يتيمة شعلة تعابثها الريح الخافتة.

جلست بين يديه. أولاها نظرة ثم غض.

قالت للشيخ :

– أتيتك لحاجة ملحة.

قال لها :

– مقضية بإذن الله.

لكن حُسنة ألحت :

– أريد منك عهد الله والشيخ الجيلاني سيد الأولياء أن تقضيها.

تحرك الشيخ محمد على فروته فصخبت حبات اللالوب على عنقه. عدّل جلسته، وكرر :

– مقضية بإذن الله !

– أعلمت إن الشرع أحل للمرأة أن تهب نفسها للرجل الصالح؟

– بذلك جاء الحديث الشريف يا بنتي.

– فأنا جئتك أهبك نفسي.

بهت الشيخ محمد ورفع بصره ينظر للمرأة مذهولاً. لم يجد ما يقول لوهلة. ثم استجمع بعض كلمات فقال :

– أنا شيخ في أرذل العمر يا بنتي. وليس لي مال أمهر به مثلك.

– أهبك نفسي بلا مهر ولا صداق.

– فما حيلتي في كبر السن يا ابنتي.

قالت في تصميم :

– أنا امرأة لا تريد إلا القراءة مع الحيران والرياضة على الليحان. ولا يحفظ ديني سواك.

– في حيراني وطلبتي من يقوم ذلك المقام خير مني. فإن شئتِ زوجتك من أحدهم وكفيتِ نفسك زواج العجائز.

هزّت رأسها وقالت :

– حاجتي لا يقضيها غيرك. وشرطي لا ينجزه سواك.

– أولك شرط؟

– نعم ! الشيخ عبد المحسن القريشابي.

اربدّ وجه الشيخ محمد لذكر الإسم.

حين أخبر زوجه ميمونة تغضّن وجهها لبرهة، ثم قالت :

– أيحل هبة المرأة بلا مهر يا سيدي؟

قال لها وهو يجهد لقراءة الغيرة في ملامحها :

– جمهور فقهاء الظاهر انه لا يحل لغير النبي.

– فما يكون من أمر هذه المرأة؟

صمت الشيخ محمد. استحضر ملامح حُسنة الحلوة كقبلة. قال :

– يجوز للولي ما لا يجوز لغيره.

– وماذا عن الشيخ عبد المحسن؟

– قد طلقها طلاقاً بائناً وانقضت عدتها.

– أعني شرطها يا سيدي.

قال في تسليم :

– ليمض أمر الله.

الآن حُسنة تطلب وفاء وعده. قال مدافعاً عن نفسه :

– وعدي كما هو يوم قبلت شرطك. ما مر زمن كافٍ لإنفاذه.

– خمسة وثلاثون يوماً يا شيخ.

– كنتُ بعد عروس. على يدك أيامي.

– عروس لشهر؟ جعل الشرع للثيب مثلي ثلاثة أيام فقط.

قال متلطفاً :

– هذا لغيرك من النساء. أما أنتِ فثلاثة أشهر بحقك قليل.

صاحت في تنمّر :

– بل بحقك أنت. أما حقي فمازال ينتظر وفاء الشيخ.

قال وقد بدأ الضيق يدب داخله :

– يا حُسنة لا تغلظي القول. وعدي كما بذلته. ولولا ما تعلمين مني نحو عبد المحسن ما وهبتني نفسك. فاصبري.

نظرت إليه في دهشة وقد بدا عليها التردد. قالت :

– ماذا تقصد؟

كسا الضيق وجهه وقال مجاهداً الكلمات :

– الشيوخ كثير وفيهم من هم أكثر مني سعة في الرزق وأصلب عوداً. فلو كنتِ طالبة زوجاً لوجدتِ غيري. لكنك تعلمين ما بيني وعبد المحسن. فصبر جميل. أنا صبرت خمسين سنة. فلا تصبرين أياماً؟

تحركت نحوه وقالت ملينة الكلام :

– لا تقل هذا يا سيدي! فوالله ما وهبتك نفسي إلا حباً في الله ورغبة في أن أكون في كنفك أنت لا غيرك.

تأملها ونفسه تستعر بتكذيبها، لكن قلبه هوى لمرأى لهفة عينيها. دبّت في عروقه الأنوار الإلهية وتعبأ بالعشق. قال لها في ضعف:

– حقاً يا حُسنة؟

قالت بحرارة وهي تلف يدها حول عنقه :

– وحق محبتك في قلبي يا سيدي.

رجف جسده واهتز عصبه. يدها على عنقه بضة ندية، وجسدها معبق بدخان الطلح يداعبه.

ليلة دخل بها وقف يتلو أذكار اتيان الزوجة. اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جُبلت عليه. ثم لهج بالدعاء لنفسه :

– اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تشد أزري وتقوي عصبي وتنفخ في قوتي. اللهم إني أسألك بحق محمد وجبريل واسرافيل وميكائيل والخضر والجيلاني أن تهبني باءة الشباب.

ثم رفع يده بمسحوق حب العزيز وقذفه في فمه. حركه بين شفتيه قليلاً ثم ابتلعه مرة واحدة. دخل على عروسه متهيباً. مرّ وقت طويل منذ سكن إلى امرأة. زوجه ميمونة تشد مئزرها مثله وأكثر. عجوز في أواخر الخمسين من عمرها. نزل الزمان بها وطول التعبد فأكلا أنوثتها كالصدأ إذا أكل الحديد. ليس لها في الزواج غاية إلا التقوى ودخول الجنة بحسن المعاشرة. لا تعصي له أمراً ولا تراجعه في كلمة. ما نادته منذ تزوجها إلا بقولها \” يا سيدي \”. ولا رفعت صوتها فوق صوته حتى للنداء. وما نظر إلا وهرعت تقف تحت نظره منتظرة أمره. عاشرها أكثر من أربعة عقود فما وجد إلا البر وحسن التبعل.

ما كان يطلب أكثر من ذلك وهو بعد في عنفوان شبابه فكيف وقد جاوز السبعين. لكن حُسنة كانت واعدة بغير ما خبر وعرف. دخل عليها متهيباً الجسد الفتي الذي لم يكمل الثلاثين. مدملجة كبرتقالة على غصن. وجدها تنتظره في ثوب من البصراوي الأخضر فاخر يليق بزوجة باشا. بلا أكمام يبرز ذراعين كما المرجان. ينتهي عند ركبتيها كاشفاً عن ساقين يخطفان لب سليمان، يحبسهن حجلان من فضة. يفوح جسمها برائحة الصندل.

ليلتها غنته بصوت كمزمار داوود :

الحكيم عاين لي وراح

قال لي يا زول ما فيك جراح

ليلتها بدت السعادة كوجه الله إذا تجلى.

وعند الفجر ناجته الملائكة أن هنيئاً لك.

وعده الذي وعد واجب النفاذ. وحُسنة ما عادت تجد للصبر مكاناً. وحين لفت ذراعها حوله وقالت :

– أنت سيدي. ما تزوجتك إلا رغبة فيك.

قرر أن يرمي تأنيه ويشرع في انتقامها. داعبت بأصابعها لحيته الحمراء بالحناء فخرج صوته راجفاً :

– غداً أنظر في أمر عبد المحسن.

لمعت في عينيها بيارق النصر لكنها غطتهم سريعاً بمسحة دلال وقالت :

– دعنا منه ولا تذكر لعدونا اسماً في هذه الليلة. فلنكمل ستة وثلاثين ليلة من الهناء بلا هموم.

جذبته من يده ودخلت به ساحة الرضا حتى أُترع.

في غده بكّر بالبعث في طلب المضوي أنجب حوراييه. أتاه عجلاً في مجلسه في المسجد القديم. وقف أمامه فتأمله الشيخ محمد برهة. جسده الطويل ووجهه الصبوح بالإيمان. قال له

قصة نشرت في مجموعة (النوم عند قدمي الجبل) – دار ميريت

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top