\”مزرعة الحيونات\” واحدة من أفضل الروايات التي قرأتها، فلقد استطاع جورج أورويل أن يمسك بتفاصيل الحكاية جيدا وأن يطوعها لتصبح عجينا يشكله كما يشاء، فتراه ينتقل من حدث لآخر بسلاسة وتدرج يتناسب مع وتيرة الأحداث، فنرى أن الأحداث كانت نتيجة طبيعية للظروف التي حول الحدث وليس فيها افتعال أو محاولة لإخضاع الحدث لما يريده الكاتب بالقوة.
هي حكاية حيوانات يصور من خلالها الكاتب كيف تحيد الثورة عن أهدافها وكيف تصنع الديكتاتورية، فلقد قامت الحيوانات بثورة ضد الإنسان الذي يستعبدها، واستطاعت أن تطرده وتتحكم هي في المزرعة، ووضعت لنفسها سبع وصايا كانت بمثابة دستورا لها، ولكن سرعان ما استغلت الخنازير ذكاءها في الاستحواذ على السلطة وتحريف الوصايا السبع لمصلحتها، واستغلال الحيوانات الأخرى واستعبادهم، حتى لم يعد أحد يستطيع أن يميز الخنازير عن أسيادها السابقين.
ولقد لخصت المؤرخة الأمريكية (باربارا توكمان) هذا الموقف عندما قالت:
(كل ثورة ناجحة ترتدي فيما بعد نفس ثوب الطاغية التي أطاحت به)، ولكن ما الذي أدى إلى فشل الثورة؟
هذا هو أول الأسئلة التي ألحت عليّ عقب انتهائي من الرواية، وكانت الإجابة البديهية التي جاءت إلى رأسي هي بالطبع الخنازير التي استكبرت في الأرض وظنت أن لن يقدر عليها أحد، ولكن بمزيد من التفكير أدركت أنه من الظلم تحميل الخنازير وحدها مسئولية ما حدث.
إن الشعوب هي صانعة الطغاة، أو كما قال عبدالرحمن الكواكبي في كتابه البديع (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد):
(من الأمور المقررة طبيعيا وتاريخيا أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع ألو التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه، وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: (جهالة الأمة، والجنود المنظمة).
وبالنظر إلى الرواية، نجد أن الخنزير كان محظوظا بحصوله على كلتا الوسيلتين، جهالة الأمة المتمثلة في الخراف التي كانت تردد باستمرار:
(الخير في ذوات الأربع، والشر في ذوات الاثنين)، ذلك الشعار التي اقتضت الضرورة تغييره بعد ذلك ليصبح:
(الخير في ذوات الأربع، والخير الأكثر في القدمين).
والجنود المنظمة المتمثلة في الكلاب التى اعتنى بها الرفيق نابليون (الخنزير رئيس المزرعة) عقب فطامها، حتى نشأت على طاعته، وحصلت بعد ذلك على امتيازات عديدة بجانب الخنازير.
فالحكومات فاسدة حتى تثبت العكس، والحاكم ديكتاتور طالما لا يوجد من يحاسبه أو يراجع أفعاله، فاستطاع نابليون من خلال عدم وجود رقابة من الحيوانات عليه أن يفعل ما يحلو له.
وإذا أردنا تحديد الموضع التي بدأت فيه الثورة تنحرف عن مسارها، فسنجد أنه عندما استأثرت الخنازير بالحليب والتفاح دون باقي الحيوانات، وهو الموقف الذي اكتفت فيه الحيوانات بالهمس في الوقت الذي كان من المفترض فيه أن تصرخ بقول لا.
أما المنعطف الرئيسي الذي غيّر مسار الثورة تماما، هو الانقلاب الذي قام به نابليون بمساعدة الكلاب، وطرد على إثره (سنوبول) الخنزير المنافس لنابليون في السلطة، والأخطر من ذلك هو إعلان نابليون إلغاء اجتماعات يوم الأحد، والتي كانت تناقش فيها الأمور الخاصة بالمزرعة وتؤخذ فيها القرارات بالأغلبية، وبذلك انفرد نابليون بالسلطة دون منافس أو رقيب.
وينجلي في هذين الموضعين ضعف الأمة عن الدفاع عن حقوقها واستخفاف نابليون بهم.
ولم يغفل جورج أورويل دور رجال الدين في الاستبداد السياسي، وذلك على النحو الذي اظهره في شخصية الغراب الذي كان يدعي وجود بلد سري يقال له (جبل الحلوى) تعيش فيه كل الحيوانات بعد الموت، وهو موجود في السماء وراء الغيوم قليلا، وكان يبدع في وصف العشب المتوفر هناك والسكر الذي كان سيحظى به الجميع، وكان الغرض من حكاياته تلك إلهاء الحيوانات عن حالة البؤس التي يعيشون فيها بجعلهم يأملون في حياة أفضل بعد الموت بدلا من صنعها قبله.
ذلك الغراب الذي كان موجودا أيام حكم الإنسان للمزرعة، وهرب منها بعد الثورة مودعا أيام السعادة والهناء، ولكن سرعان ما خيبت الأيام ظنه واحتاجه الديكتاتور الجديد في تثبيت دعائم حكمه.
وأي ديكتاتور في حاجة إلى ترزي يفصل له القوانين حيث يشاء، بحيث تكتسب أفعاله اللامعقولة صفة الشرعية، ويطوع الباطل بلجام القانون فيسيره لمصلحته، وهنا نجد الدور المهم الذي لعبه (سكويلر) الخنزير البارع في الخطابة واللئيم الذي تشع عيناه بالمكر، والذي قام بتحريف الوصايا السبع لتخدم مصلحة القائمين بشئون المزرعة، فعلى سبيل المثال الوصية التي تقول:
(يمنع على الحيوان قتل حيوان آخر)
نراها يضاف إليها (من دون سبب مقبول) لتبرر تلك المجزرة البشعة التي قام بها نابليون ضد معارضيه والتي كانت أول عهد المزرعة بالدم وللأسف لم تكن آخره.
(بوكسر) ذلك الحصان المسكين الذي يرمز إلى الطبقة الحاكمة، والذي كان يؤمن بشعارين (سوف اعمل بكد) و(نابليون لا يخطئ أبدا) إلا أنهما لم يشفعا له عند القائد نابليون الذي تخلص منه عبر بيعه لمحل جزارة تمهيدا لذبحه بعد أن أصابه المرض والإنهاك، وهكذا هي خيل الحكومة تضرب بالنار عندما تعجز عن القيام بما هو مطلوب منها.
وكما هي العادة في أي نظام ديكتاتوري يجب إلهاء الناس بعدو وهمي يشكل خطرا عليهم ويحيك لهم المؤامرات لإخضاعهم، في البداية كان مجرد ذكر اسم (جونز) صاحب المزرعة يمثل حساسية شديدة لدى الحيوانات، يجعلها تتقبل برضا جميع انحرافات الخنازير المتكررة، ثم ظهر عدو جديد هو سنوبول الخنزير الذي انقلب عليه نابليون والذي صار الشماعة التي يعلق عليها نابليون مسئولية أي فشل يلحق به.
نابليون لا يخطئ، وإن كل خسارة تلحق بالمزرعة هي من تدبير الأعداء الذين لا يكفون عن تدبير المؤمرات ضد المزرعة، والتي لولا حنكة القائد نابليون لتمكنت تلك المؤمرات من القضاء على المزرعة.
وكما أن كل شر ينسب للأعداء، فإن كل نجاح أو ضربة حظ موفقة تنسب إلى نابليون، حتى صار من المألوف أن تسمع دجاجة تقول لأخرى:
(تحت القيادة المستنيرة للرفيق نابليون، قائدنا، وضعت خمس بيضات في ستة أيام)
(ثم سمعت من جهة بنايات المزرعة صوت طلقة نارية، سأل بوكسر: ما هذه الطلقة النارية؟
أجابه سكويلر: للاحتفال بالنصر الذي أحرزناه
سأل بوكسر وقائمتاه تنزفان دما، لقد فقد حدوة وانشطر حافره وأصيب ساقه الخلفي بعشرات الشظايا: أي نصر؟
– أي نصر؟! ألم نطرد العدو من أرضنا، أرض مزرعة الحيوانات المقدسة؟
– لكنهم دمروا الطاحونة التي استغرق بنائها سنتين!
– وماذا بعد؟ سنبني واحدة أخرى، سنبني ست طواحين إذا أردنا، أيها الرفيق إنك لا تعطي لعملنا قيمته الحقيقية، لقد كاد العدو يحتل هذه الأرض التي نقف عليها، واليوم بفضل الرفيق نابليون وبفضل مزاياه كقائد، ها نحن نملكها إلى آخر شبر.
– إذا لقد استعدنا ما كنا نملكه سابقا
– هذا هو نصرنا)
هذا هو مفهوم النصر عند الديكتاتور، فعندما كاد يفقد الأرض بسبب غبائه، واستعادها بفضل تضحيات شعبه، اعتبر ذلك نصرا مبينا يستحق عليه الاحتفال.
آفة مزرعتنا النسيان، فبعد أن يستقر المستبد على كرسي الحكم يبدأ في رواية التاريخ لا كما حدث بالفعل، بل كما كان يتمنى أن يحدث، فتراه يهمل منه أجزاء بالغة الأهمية إذا وجد أن ذكرها سيضره، ويضخم من أحداث ليس لها قيمة في الواقع إلا أنها تأتي على هواه، وليس ذلك مقصورا على الأحداث فقط، بل الشخصيات أيضا التي شاركت في صنع تلك الأحداث، فعلى الرغم من بسالة (سنوبول) في معركة الحظيرة (المعركة التي حاول فيها جونز استعادة مزرعته) لدرجة أنه منح وسام الحيوان البطل من الدرجة الأولى، إلا أن نابليون لا يخجل من أن يصفه بأنه خائن، يدبر المؤامرات لصالح جونز وأن دوره في المعركة لم يكن إلا مكيدة دبرها مع جونز لإعادة الأخير إلى المزرعة.
ومن طبيعة الديكتاتور أنه يعد بما لا يفي به، ويوهم بإنجازات في المستقل يعتمد في تحقيقها على نسيان الشعب لها، وبذلك تبخرت الأحلام حول سن التقاعد لدى الحيوانات والمكان المناسب الذي سيسترحون فيه بعد خدمتهم للمزرعة، وتبخرت أيضا الأماني حول تحديد مدة العمل وغيرها من الوعود التي تنصل منها نابليون فيما بعد.
كل تلك العوامل تضافرت فيما بينها لصناعة الاستبداد، الكلاب التي كانت اليد التي يبطش بها نابليون، وسكويلر اللسان الذي ينطق به ويحلل له الباطل، الغراب الذي كان بمثابة المخدر الذي يلهي الشعب عن حقيقة مأساتهم، الخراف التي لا تعرف إلا كلمة نعم، بوكسر الساذج الذي دفع في النهاية ثمن سذاجته.. كل هؤلاء مشتركين بنسب متفاوتة مع نابليون في ظلمه، وإذا أٌتيح لنا محاكمة نابليون فينبغي لنا أن نضع معه في القفص كل هولاء.
وفي أثناء قراءتي للرواية، خطر لي سؤال آخر هو:
هل كان يجب أن تقوم الحيوانات بالثورة؟ وما فائدة ثورتها من الأساس على الإنسان؟ أليس من الأفضل أن يحكمها الإنسان وإن ظلمها، بدلا من الظلم التي تعرضت له من بني جنسها؟
في الحقيقة احترت في إجابة هذا السؤال، ولكن هداني عقلي إلى إجابة اقتنعت بها: الثورة عمل نبيل، لا يضيرها أبدا إن استغلها أحدهم لصالحه، فلو استمرت الثورة فيما كان متفقا عليه، لاختلفت النتائج، وأن الذي أفسد المزرعة ليس الثورة، بل تخليها عن الثورة، لقد تنازل الحيوانات عن حقوقهم، فعاقبهم الله بالاستبداد ونتائجه.. الثورة بريئة من نابليون وأعوانه.
وفي نهاية الرواية، يأتي السؤال الأخير: ماذا لو كانت الرواية أطول من ذلك، وأراد كاتبها أن يختمها بنهاية سعيدة تعود فيها الحيوانات إلى المساواة والحكم بالعدل والمشورة بعد القضاء على استبداد نابليون، كيف ستكون تلك النهاية في ظل تمكن الاستبداد في المزرعة؟
ولا يتركنا عبدالرحمن الكواكبي قبل أن يعطينا نصائحه في القضاء على الاستبداد:
(١) الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد، لا تستحق الحرية.
إن الأمة إذا ضربت عليها الذلة والمسكنة، لا تسأل عن الحرية ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة أو للنظام مزية، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها، أحسن أو أساء على حد سواء، وقد تنقم على المستبد نادرا، ولكن طلبا للانتقام من شخصه لا طلبا للخلاص من الاستبداد.
وقد تقاوم المستبد بسوق مستبد آخر تتوسم فيه أنه أقوى شوكة من المستبد الأول، فلا تستفيد شيئا إنما تستبدل مرضا بمرض كمغص بصداع.
وربما تنال الحرية عفوا، فكذلك لا تستفيد منها شيئا لأنها لا تعرف طعمها فلا تهتم بحفظها، فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي إلى استبداد مشوش أشد وطأة كالمريض إذا انتكس.
ولهذا قرر الحكماء أن الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأما التي تحصل على أثر ثورة حمقاء، فقلما تفيد شيئا، لأن الثورة غالبا تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولا.
(٢) الاستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم بالحكمة والتدرج.. الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدا، وإنما ينبغي توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة.
وقد يبلغ الاستبداد من الشدة تنفجر عندها الفتنة انفجارا طبيعيا، عندها يثور العوام على المستبد ويدركون حقيقة الاستبداد، فيموج الناس في الشوارع والساحات، وقد تملأ أصواتهم الفضاء، وترتفع فتبلغ عنان السماء ينادون: الحق الحق، الانتصار للحق، الموت أو بلوغ الحق.
فحينئذ يظهر عقلاء الأمة بعد حصد المنافقين، ويقومون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد.
(٣) يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.
إن معرفة الغاية شرط طبيعي للإقدام على كل عمل، كما أن معرفة الغاية لا تفيد شيئا إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقا، بل لابد من تعيين المطلب والخطة تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل أو لرأي الأكثرية، وإلا فلن يتم الأمر، حيث إذا كانت الغاية مبهمة جزئيا، يكون الإقدام ناقصا جزئيا، وإذا كانت مجهولة بالكلية عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم، فهولاء ينضمون إلى المستبد، فتكون فتنة شعواء.
ثم إذا كانت الغاية مبهمة، ولم يكن السير في سبيل معروف، يوشك أن يقع الخلاف في أثناء الطريق، فيفسد العمل، لذلك يجب تعيين الغاية بصراحة وإشهارها بين الكافة، والسعي في إقناعهم واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك، بل الأولى حمل العوام على النداء بها وطلبها من عند أنفسهم.
ما زالت تلك الرواية الصغيرة في عدد صفحاتها الكبيرة في معناها في حاجة إلى مزيد من التأمل لم تسمح به الظروف الحالية، وقد يجود المستقبل بلحظات نعيد فيها النظر إلى تلك الرواية العظيمة.