عندما وصلت إلى جزيرة ليسبوس في بحر إيجة بداية هذا العام، لم يخطر ببالي أنني سأنخرط في تنظيم مهرجان فني في الجزيرة، يركز على التعددية الثقافية وتحدي سياسة الحدود المغلقة التي فرضتها أوروبا على هؤلاء الذين أجبرتهم الحروب على ترك منازلهم (التي دمرت)، وخوض غمار البحر بحثا عن حياة آمنة بعيدا عن جنون الحرب.
وصلت ليسبوس أو كما ينطق أهلها الاسم ليسفوس، في بداية شهر يناير، لانضم لفريق البحث والانقاذ التابع لمنظمتي أطباء بلا حدود والسلام الأخضر.
خلال الشهرين الأولين هناك، كان عملي بشكل مباشر على قوارب الإنقاذ السريعة في درجة حرارة وصلت أحيانا إلى ثلاث درجات تحت الصفر، هناك التقيت باللاجئين الذين يعبرون البحر بقوارب مطاطية، وشاركت في انتشال العشرات من الماء أو من القوارب المعطوبة.
خلال هذه الفترة، شهدت قسوة اللجوء، وتعرفت عن قرب على أناس من جميع أنحاء العالم وعلى أهل ليسبوس، الذين فتحوا جزيرتهم وهبوا للمساعدة في أي وقت.
لن انسى يوما ذلك الموقف من أحد الصيادين، جاء فريقنا يحمل طفلا في الثالثة، يعاني من انخفاض في درجة حرارة الجسم، الوقت كان مبكرا والعيادة الموجودة في ميناء قرية سكاميا كانت مغلقة، فما كان من هذا الصياد إلا أن قام بتكسير باب العيادة وفتحها لطاقمنا.. الرجال والنساء اصطفوا في الخارج، كانت هناك حالة من الوجوم تلقي بثقلها على الوجوه.. بعد دقائق أُعلن عن وفاة الطفل.
انهمرت دموع الرجال والنساء في المكان، حالة عامة من الحزن صبغت المكان.. في نفس اليوم تم إحضار قارب آخر مليء بالنساء والأطفال، وهم في حالة صعبة جدًا، بسبب تدني درجة الحرارة وابتلال ملابس من كانوا على القارب.
لن انسى موقف صاحب مطعم في الميناء؟ حين طلب من زبائنه المغادرة، وطلب إدخال اللاجئين إلى مطعمه الدافيء، وشارك في تقديم الملابس الجافة والطعام للاجئين.
هذه هي ليسبوس التي عرفتها في أيامي هناك، وهذا الانطباع الذي تركه أهلها لدي.. أناس يحتضنون من هم بحاجة للمساعدة، يفتحون أبواب بيوتهم، ويقدمون كل المساعدة الممكنة.
خلال اللقاءات الكثيرة التي جمعتني بأناس من الجزيرة، ومن كل أنحاء العالم ولاجئين أصبحوا جزءا من المكان، كان هناك شيء في كل ذلك.. تعددية ثقافية وتعايش، حالة رائعة من الاندماج في حالة جديدة، في إطار يخترق الانتماءات الضيقة ويخلق حالة جديدة، حالة أجمل، فيها الاختلاف هو إثراء لتجربة نعيشها ونسطر تفاصيلها.
عشت هذا الشعور في فلسطين في بداية الألفينات، وفي مصر بعد الثورة.. هذا الاندماج وهذا الإثراء.. التبادل الذي يغير البديهيات ويعمق الشعور بانتماء إنساني من نوع مختلف.
كان هناك واقع آخر في المكان، كان ذلك القلق من المستقبل، القلق من توقف السياحة بعد إلغاء العديد من منظمي الرحلات السياحية لحجوزاتهم، بالنسبة لي ولآخرين كان هذا شكل من أشكال العقاب، تم فرضه على سكان ليسبوس لترحيبهم باللاجئين، ولوقوفهم إلى جانب إنسانيتهم، وإرثهم الثقافي ومبادئهم، في مواجهة تغول الشمال الأوروبي وانغلاقه.
بدأت في التفكير في تنظيم أنشطة لجذب نوع آخر من السياحة إلى الجزيرة، أنا لا اعرف شيئًا عن السياحة، ولم اعمل بها في حياتي، لكن الفكرة كانت تتلخص بدعوة فنانين من جميع أنحاء العالم للحضور إلى الجزيرة للتضامن مع أهلها واللاجئين فيها.
كنت أفكر في تغيير نمط السياحة، من السياحة التي تعتمد على الشمس والبحر والشواطئ، إلى سياحة ثقافية وأخلاقية، تقدم وتأخد وتتماهى مع حالة التعايش والتعددية الثقافية التي وصفتها أعلاه.
من هنا ولدت فكرة المهرجان، وبدأت في العما مع فريق رائع من المتطوعين الذين آمنوا بالفكرة، وأعطوا وقتهم ومالهم لتحقيقها.
ريتا نيكولايدو ممثلة ومغنية من اليونان، نشطت بتنظيم نشاط مسرحي في الجزيرة، وكان لديها حلم لبناء مسرح مختلف في الجزيرة، خلال اللقاء الأول معها، ولدت فكرة مسرح الأمل وباص الأمل.
مسرح الأمل هو مؤسسة ثقافية تسعى لتعزيز التعايش والعمل على خلق مساحة إبداعية لفنانين من مختلف أنحاء العالم وفنانين محليين ولاجئين، وهو فكرة مرتبطة برؤية ريتا لمسرح مختلف وتجربتي مع مسرح الحرية في مخيم جنين للاجئين، وباص الأمل هو فكرة لمسرح متحرك ينتقل بين مخيمات اللاجئين، ويقدم ورشات في مسرح الدمى ومسرح الظل بالإضافة إلى أنشطة ترفيهية، والباص سينتقل من الجزيرة إلى مخيمات اللاجئين في اليونان وتركيا والأردن ولبنان.
كبر فريق المتطوعين؟ وانضم له أناس من مصر والسويد وفلسطين وألمانيا والبرتغال وهولندا وسوريا على سبيل الذكر لا الحصر.. هذا الفريق يعبر عن روح ورؤية المهرجان.
المهرجان سيحتوي على عروض موسيقية ومسرحية وسينمائية، بالإضافة لمعارض فنية وورشات عمل، وستعقد العديد من هذه الورشات في مخيمات اللاجئين في الجزيرة.
جئت إلى ليسبوس لأساعد في عمليات الانقاذ في بحر إيجة، جذبتني الرغبة في مساعدة اللاجئين، مساعدة هؤلاء الذين فقدوا كل شيء وقفزوا إلو بحر لا دراية لهم به، مخاطرين بحياتهم في سبيل حياة.. في سبيل أمان.
وأنا الآن اشارك في تنظيم مهرجان يهدف إلى توظيف الفن في مقاومة العنصرية والفاشية، والتضامن مع سكان ليسبويس واللاجئين فيها.. الفن هو حالة مقاومة لكل أشكال العنصرية والتنميط المقرف.. هذه هي جبهتي اليوم.
للاطلاع على صفحة مهرجان Symbiosis Lesvos Arts Festival.. اضغط هنا
للمشاركة في حملة دعم مهرجان Symbiosis Lesvos Arts Festival.. اضغط هنا