حسن عبد الحميد حجاج يكتب: ما الذي سنقوله عندما نتكلم عن كيميت؟

انتهت نوبة العمل، نزلت إلى الشارع الذي كان يضج بسكون الصباح. اقتحمت أذني أغنية \”البساطة، البساطة\” من مذياع على مقهى مقابل لوكالة الأنباء التى أعمل بها مترجماً. نظرت إلى المقهى، فرأيت صاحبه ينظف أرضيته وهو يرقص. ابتسمت وخاطبت الله فى سري: \”مدهشة الفرحة عندما تكون زاعقة\”.

أشرت لحافلة عامة ووقف لي سائقها. ركبت وجلست بقرب النافذة، هكذا أحب أن أفعل عندما يكون الوقت شتاء.

استعدت التقرير التلفزيوني الذى ترجمته فى عملي عن العنوسة فى الصين، فكرت فيه بينما أصافح أشجار الطريق النائمة بقلبي. تذكرت الفتاة الأربعينية التى كانت تقول لأمها عبر الهاتف الجوال: (آلو، كيف حالك يا أمى؟  لقد رأيت الرجل، إنه ليس جميلًا كجمال الصورة التى أرسلها لى موقع الزواج الذى أجبرتينى على التقديم فيه، ياللآلهة، إنه طويل للغاية وفى الخامسة والأربعين، وأنا كما تعرفين يعني.. تحت الخامسة الأربعين، أنا فى الثالثة والأربعين وهذه سن جيدة. هل تعرفين أنه لا يكسب كما أكسب؟ دخله السنوي أقل من دخلي، وهذه مصيبة. تعرفين؛ أنا لن أقبل بهذا. وهناك شىء آخر بدلته كئيبة وسوداء. بحق الآلهة، هل يصح أن يقابل أحدهم إحداهن ببدلة سوداء؟ إنه مغفل لا شك فى ذلك يا ماما. تبا له ولكل هذه الجعجعة اللغوية التى سمعتها منه. آه، نسيت أن أقول لك لقد كان كريما بخصوص دفع ثمن المشروبات، ولكنه كان كئيبًا أيضًا. تبًا، لقد تأخرت،  فلنتكلم لاحقًا، علي أن ألحق باجتماع هام، وداعًا، سأحدثك الأسبوع القادم، حافظي على قرار التوقف عن شرب القهوة والسجائر، وإلا كما أنتِ تعرفين، سأتوقف عن دعمك ماليًا، ولن تجدي حتى يواناً واحدا لشراء وجبة كيمتسي، وداعًا).

تعجبت لوقاحة الفتاة الصينية الأربعينية مع أمها، وأسعدتني القدرة على تذكر الحوار كاملاً، قلت فى نفسي لنفسي: \”كان عليك أن تكون شاعراً\”

فكرت ثم رددت سريعًا: \”لا، عندما تحبك الكتابة، يكرهك الخبز، وتعشقك السجون، ويلعنك الوطن، وتتوعدك سيوف الجلادين والمتطرفين بحز الرأس\”

بعد ربع ساعة من ركوبي؛ أشارت امرأة أربعينية لسائق الحافلة بالتوقف للنزول. قامت من كرسيها باتجاه الباب. قام رجل مسن سبعيني أو ثمانيني،  بضرب المرأة الأربعينية على مؤخرتها وهى تمر أمامه. لكن المرأة لم تنظر، واستمرت فى طريقها كأن شيئا لم يحدث، أو كأن ضرب النساء المصريات على مؤخراتهن فى المواصلات العامة أصبح روتيناً لا يجب أن يشغل الناس به تفكيرهم. أحسست بالدم يغلي فى عروقي. قلت للرجل: \”أنت يا محترم؛ أليس عيبا أن تفعل ما فعلت؟ انظر لنفسك، ألا تخاف الشتيمة؟\”

نظر الرجل المسن إليّ بنظرة الخائف المفضوح. تكلم شخص واثنان وثلاثة معبرين عن غضبهم، كأن شهامة الرجولة المصرية قد استيقظت فجأة فى أوصالهم. لاحظت أنهم رأوا الأمر من الثانية الأولى، وأنهم نظروا بعدها إلى النوافذ. استفسر رجل بلحية مشذبة فى آخر الحافلة عن اللغط،  فأخبره أحدهم؛ فعلا صوته بالمقولة التى لا تفنى ولا تستحدث من العدم:\”أستغفر الله العظيم\”.

فجأة؛ زعقت المرأة التى حدث لها ما حدث فى الجميع. قالت: \”العيب عليكم، وليس على الرجل. ألا ترون أن رجله اليمنى فى الدنيا، ورجله اليسرى فى القبر\”. قالت هذا ورجعت للرجل المسن وقالت له: \”اضربني مرة ثانية عنداً فى هؤلاء الأوباش\”!

تبدلت ملامح المسن من الفزع إلى الانبساط والانتصار، وقام بضربها مرة ثانية وثالثة ورابعة على مؤخرتها، وسط تصفيق  حاد من نفس ذات النوعية من البشر التي كانت تعيب عليه منذ ثلاث ثوان ونصف. ضحكت المرأة ضحكة رقيعة، ثم نزلت.

ساد نوع من الضحك، اختلط مع بهرجة بنات جامعيات. نزل الرجل صاحب اللحية فى وقتها، وهو يقول: \”يا أوساخ يا أبناء الأوساخ\”.

ازداد ضحك الناس أكثر وأكثر. خاصة عندما عبر إلى الرصيف الآخر، بعد أن كادت تدهسه حافلة أخرى أتت من الاتجاه المعاكس، بينما كان يرفع يديه إلى السماء، ويدعو، أو يشتكي أو يلعن. قال الجالس بجواري ضاحكًا ومشيرًا إليه: \”شكله خروف إخواني بن كلب\”، ولما لم يجد في وجهي الذي ينضح بالغضب ما يتفق مع وجهة نظره، رنا إلى الأمام كأنه لم يحدثني من الأساس.

نظر الرجل المسن، بطل الملحمة، نظرة تشفٍ إليّ. قلتُ في نفسي: \”القذر ابن المرأة اللئيمة حفيد المرأة العالمة\”.

حاولت أن أتخطى الأمر وفشلت، ازداد شعوري بالغضب الجامح، وتذكرت قصة سنوبزم ليوسف إدريس متعجباً كيف يصبح الخيال حقيقة، واستعرت فى أوصالي رغبة مغولية في أن أقوم وأضربه أو أخنقه، ولكني بالطبع استطعت السيطرة على نفسي خوفًا من أن يموت فى يديّ إذا فعلت ذلك، وأُسجن فيه تأبيدة كاملة بحولها وقوتها، ثم تتم الكتابة عني فى شكل خبر طويل مصحوب بصورتي فى موقع اليوم السابع، وفوق الخبر عنوان فضفاض من فصيلة: \”مترجم من جنوب مصر يتجرد من الرحمة، ويخنق مسناً حتى الموت فى حافلة قاهرية\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top