حسام علوان يكتب: قصة في رسالة من سبعة مقاطع

مقطع رقم 1: 

بالرغم من أنني أعترف أنني لا أملك ملكة الكتابة, لكني قررت اليوم أن أتفاصح وأكتب قصة قصيرة عنك على هيئة رسالة لك, فأنت المخاطب والمحكي عنه.. اليوم سأقول لك إنك لن تريني مرة أخرى, وإن حدث ورأيتني في أحلامك فأبصقي علي, ربما مسحت وجهي بعدها لاكتشف أن بصاقك لم يعد يترك أثراً مادياً.

اليوم أكشف لكم.. كنا بلهاء وحمقى.. هل تذكرين ونحن نجلس بالساعات لنقرأ أشعار رامبو و بودلير وشعراء الشفق الإيطاليين ورسائل حب مدونة في روايات كتبت في نهاية القرن التاسع عشر.. الآن لا أكاد أصدق كم كنت أحمقاً وقتها.

اليوم أتذكر رحلتنا اليومية إلى المكتبة الوطنية بوسط المدينة.. نمسك بكتب ثقيلة مغلفة بأغلفة سميكة, وتفوح منها رائحة التراب, كتب لم يحملها أحد لسنوات عديدة, تمتليء بصور لموتى ملقاة أجسادهم في الشوارع, وجماجم لا تحصى.. اليوم أدرك كم كنت أحمقا بذهابي معك إلى هناك.. إن هذه الزيارات إلى المكتبة الوطنية كادت تقضي علي: لقد بدأ وجهي بعدها يصفر وتبرز عيني للأمام، كأنها ستسقط من وجهي, ويدي بدأت تتشقق لتصبح كيد هندي أحمر في المائة والعشرين سنة من العمر.

الشيء الوحيد الذي أدين به لهذه الزيارات الخرقاء للمكتبة، أنني برأت بعدها من الرغبة في الذهاب إلى المكتبات.. لقد أصابتني وللأبد برهاب المكتبات.

كان لابد أن أغادرك, ألا أراكي مرة أخرى وللأبد.. هل تذكرين ملامح الحزن والشحوب التي كانت ترتسم على وجهك يوماً بعد يوم؟ هل تذكرين الحلم الذي حكيتيه لي بأن يداً مشققة كانت تحيط بعنقك وتخنقك.. يومها ضممت يدي لأخفي تشقق اليد, لكن عقدة الذنب التي سيطرت علي دفعتني لأقول لك بحماقة \”هذه اليد قد تكون يدي\”، وكشفت لك عن كف اليد المشقق, وأنتي بحماقة لا تقل عن حماقتي كشفت لي عن كف يدك المشقق وقلت لي:\”ولماذا لا تكون يدي أنا, وأكون أنا من أخنقني بنفسي؟\”

هل تذكرين ما حدث بعدها؟ هل تذكرين ونحن نجلس أمام المكتبة الوطنية, وأنت تقولين: \”لم أعد أتحمل العيش في هذه المدينة.. خذني معك\”, وأنا أخذت رأسك على صدري وداعبت وجهك كقطة تحتاج للحنان.. يومها بكيت كالأطفال.. كنت تريديني أن آخذك إلى مكان ما بعيد عن تلك المدينة وعن المكتبة الوطنية, وأنا كنت مشرداً ولا مكان لي, ولا أعرف أين سأذهب بعد أن تنتهي إقامتي في تلك المدينة.. لسنوات بعدها لمت نفسي على أنني تخليت عنك.. اليوم أعترف.. نعم تخليت.. لم يكن أمامي حل آخر.. كان لابد أن أختار.. إما أن أبقى معك ونصارع الموات معاً، أو أن أعيش, وأنا أخترت أن أعيش, واليوم أعترف أنني لست بنادم.. اليوم أعترف بأنني قد برأت منك.

مقطع رقم 2:

اليوم الجو ربيعي مشمس وتهب فيه نسمات هواء رقيقة.. هل تذكرين حينما دخل الربيع في ذلك العام من نهاية الألفية الثانية؟ هل تذكرين حينما حلت حمامة على نافذتنا؟ يومها وقفتي تنظرين لها من وراء الزجاج كالمسحورة, ومنعتني من فتح النافذة حتى لا أزعجها فتطير.. لقد منعتني يومها من تنسم الهواء بسبب تلك الحمامة الخرقاء.. أنت بكل بلاهة قلت بأن الحمامة ترمز لأمل ما في سلام مؤقت. – هل هذه خلاصة قراءتك لرولان بارت؟ إن كان الأمر كذلك، فاللعنة عليك وعليه – قلت لي- أنت أحمق، وأنا صامت, وبسبب صمتي تحملت غلق النافذة لأسبوع لتنعم الحمامة بالهدوء, وأنا أراكي تفتحين النافذة بهدوء لتضعي لها طعامها, وتغلقيها بهدوء من جديد.. بعدها حكيت لك عن البيت الطيني الذي تربيت فيه, وكيف أن الحمام كان يعيش معنا في ذلك البيت ويحلق فوق رؤوسنا.. فقلت لي ببلاهة: \”ياللروعة!\”, وأنا قلت لك إنني كنت استمتع بمطاردة الحمامات لتطرن من فوقي, فإن أمسكت بواحدة منها أخذتها لجدتي لتذبحها لي فأتعشى بها, فقلت لي: \”أنت دموي من يومك\”, وأنا واجهتك بالحقيقة المرة: \”ليست الحمامة ما سيجلب الأمل إلى حياتنا.. نحن فقط يمكننا أن نفعل ذلك\”، وفتحت النافذة لأدفع الحمامة بيدي لتطير.. أنت بكيتي يومها كثيراً، كأنني قمت بطعنك, لكني لم أشعر بالذنب.. كان لابد أن أدفعك للتخلص من الوهم.. وهم أنه كان هناك شيء أفضل مما كنا نعيشه أو أفضل من نافذتنا التي كانت تجلب لنا الهواء الربيعي المنعش.

مقطع رقم 3:

أنا أعترف أنني تأثرت لأول مرة وأنت تقرأين لي قصيدة \”الغريب\” لبودلير, وعاهدت نفسي على التعمق في قراءته.. في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المكتبة الوطنية واستعرت الأعمال الكاملة لبودلير, واتجهت إلى الحديقة العامة وجلست أمام بحيرة البط.. كان البط هادئاً على غير عادته, فانهمكت في القراءة, وتوقفت عند قصيدة \”الجمال\” لـ شارل بودلير:

\”أنا رائعة أيها البشرْ كحلم قُدّ من حجرْ وصدري تهافت عليه موتاً، كل واحد بالتناوب، خلق ليوحي للشاعر حبا أبدياً وأخرس كالمادة.. أُتوَّج في اللازورد، أبا هول غامض السـرِّ أجمع في بهائي بين قلب من ثلجٍ وبياض ناصع، أمقت الحركة التي تغير السطور، وأبداً، لا أضحك، وأبداً لا أبكي، والشعراء إزاء مواقفي العظيمة، التي أتظاهر باستمدادها من أشمخ الأنصابْ، سيستهلكون أيامهم في الدراسات المتزمتة إذ عندي من المرايا الصافية ما يجعل كل الأشياء أروعْ: عيناي الواسعتان ذاتا الضياء السرمدي، كي أفتنَ هؤلاء العشاق الخنوعين\”

فجأة اتصلت بي, وسألتني عما افعل.. حكيت لك، فقلتي لي \”أنا أيضاً بدأت اليوم بقراءة بودلير من جديد.. هل استوقفتك قصيدة ما؟ دعني اخمن.. قصيدة \”الجمال\”؟ اندهشت.. قلت لي إنك توقفت عند نفس القصيدة قبل أن تتصلي بي، وأضفت:\”أنا لن أكون إلا لك\”.

هل تعرفين لماذا أحكي هذه الحكاية اليوم؟ أنا أحكيها لأتذكر مدى البلاهة التي كنا ننعم بها.. هذا الشعر الذي كنا نقرأه سمم حياتي, واستغرق الأمر مني سنوات لأبرأ منه.. أما نحن فقد كنا بلهاء وحمقى ونستحق أن يكتب الفراق علينا, ولا أشعر الآن بالأسى أن هذا قد حدث.

مقطع رقم 4:

هل تعرفين بالرغم من أنني قد قررت أن أتخلص من أي شيء يربطني بك للأبد, لكن اليوم سمحت لنفسي بمساحة ما من الحنين.. كنت قد استيقظت وأعددت القهوة, وجهزت الإفطار, لكني لم أتمكن من تناوله, وشعرت بتكاسل أن أسخن اللبن لأشرب قهوتي باللبن وشربتها سوداء.. هل تعرفين: اليوم تذكرت حينما كنتي تستيقظين في الصباح وتتسحبين عارية من الفراش لتخبزي الكرواسون في الفرن وتضعين القهوة على النار، بينما أنعم أنا بلحظات أخيرة من النوم العذب لأستيقظ بعدها على صوت أم كلثوم تغني: \”أراك عصي الدمع\”.. لم استمتع بصوت أم كلثوم كما استمتعت به مع تناول ذلك الإفطار الفرنسي وأنت تحكين لي: \”في طفولتي دائماً ما أحببت مشاهدة أم كلثوم على قناة \”فرانس 2\”، وهي تغني ملوحة بالمنديل في يدها.. كان مشهداً جميلاً\”, وتسألينني عن معنى الأغنية، فأترجم لك أنها تتحدث عن الرغبة في البكاء وعدم القدرة عليه, فتبكين, وأحتضنك, فتضحكين وأنت تواصلين البكاء.

هذا الحنين لابد من بتره, وعلي أن أدرك، لطالما منعتني حساسيتك الفرنسية تلك من العيش بعد فراقك, فاللعنة على تلك الحساسية المفرطة, وسأتناول الآن قهوة سوداء مضاعفة لأستيقظ من ذلك الحنين الذي لا معنى له.

مقطع رقم 5:

هل تذكرين القبلات؟ تلك القبلات الممتدة والمتلاحقة، والتي ما إن تنتهي حتى نبدأ في التقبيل من جديد.. لم تكن القبلات تعترف بالمكان أو الزمان.. كانت تحدث فقط. كنت تنظرين تجاهي، فأنظر تجاهك وبدون مقدمات أو كلمات نشرع في التقبيل: في الشوارع, في المقاهي ونحن نشرب القهوة, في المطاعم ونحن نتناول العشاء.. لم تكن تلك القبلات محرمة في أي مكان.ز اليوم حينما أمشي في تلك الشوارع أو أدخل تلك المقاهي أو المطاعم، أشعر بأن هذه القبلات تطاردني، ولا أتحمل البقاء, كأن القبلات تطالبني بأن أحكيها, وها أنا أحكيها.. علها تتوقف عن مطاردتي.. هل تعرفين إن تقابلنا مرة أخرى لن أترك نفسي لك ولن أقبلك, وأنا أعاهد نفسي على ذلك.. لن أسمح للعنة القبلات تلك أن تستمر للأبد.

مقطع رقم 6:

كنتي تعرفين أنني أفضل أن نقضي أوقاتنا معاً, ومع ذلك لم أعترض حينما أخبرتيني أننا سنذهب إلى عيد ميلاد صديقة فرنسية.. كنت أنت تعرفين أغلب من في الحفلة، وكنت أنا غريباً.. شيء ما جعلني أتخلص من شعوري بالغربة.. ما من مرة نظرت إليك فيها، إلا وجدت عينيك تنظران لي وتبتسمين ابتسامة عذبة تزيل عني التوتر وتجعلني ابتسم، لكن شيئا ما عكر صفو تلك الليلة, وكان بمثاية نذير شؤم: اقترب مني شاب إيطالي كان قد تمكن من فك طلاسم النظرات, وسألني مشيراً إليك: \”صديقتك؟\” فأومأت ايجاباً، فقال:\”كن حذراً.. الفرنسيات كنجوم السماء, نسعد بالنظر إليهن, لكننا نحترق إذا اقتربنا منهن\”.. كانت كلماته نذيرا بأنني في طريقي للاحتراق في سمائك العاشقة, أو ربما أكون قد احترقت بالفعل.

استغرق الأمر سنوات عديدة قبل أن أقابل صديقا إيطاليا يعيش في باريس, وحكيت له أنه لولا صداقته، لقاطعت كل الإيطاليين بسبب ما قاله لي ذلك الإيطالي الأخرق في تلك الليلة، حينما رآني أنظر إليك، فقال لي صديقي الإيطالي الفرنسي: \”لا يمكنك أن تحمل الإيطاليين جميعاً خطيئة إيطالي واحد.. لم يجد الاستعارة.. أنا سأقول لك استعارة أخرى: الفرنسيات يا صديقي مثلهن كمثل القمر, يصعد الإنسان إليه ثم يهبط عليه, ثم يعود للأرض مرة أخرى ويحتفي الناس الذين لم يذهبوا للقمر بعودته, فلنشرب إذن نخب عودتك للأرض بالسلامة\”

المقطع رقم 7 و الأخير:

كنت قد وضعتي خريطة العالم على طاولة الطعام, وأشرت إلى فرنسا، وقلت: \”نحن هنا الآن, وأنا أمامي رحلة واحدة لأقوم بها\”, وأخذت تشيرين بأصبعك على مواضع مختلفة: \”قد تكون إلى أمريكا, أستراليا, أندونيسبا, غانا, أو مصر.. لكن بعد هذه الرحلة قد لا أعود إلى هذا البلد.. هذه الطبيعة الفرنسية ستقضي علي\”. فهمت مغزى اللعبة الذهنية التي كنت قد شرعت فيها, وفكرت: \”ماذا تظن هذه الفتاة الفرنسية أننا سنفعل بمصر؟ سنكون مجرد إثنين من الحمقى يعيشان وسط حياة قاسية لا ترحم أحدا\”.. لم يكن لدي أدنى شك أنني سأكون بلا عمل ولا مأوى حينما أعود.. قلت بعصبيتك المعتادة في مثل هذه المواقف: \”أنا الآن اعرف أنك لا تريد أن تعيش معي\”.. حاولت أن أجد مخرجاً من هذا المنعطف الخطر.. قلت لك: \”أمهليني حتى أعود و قد تتحسن الظروف\”، فرددت: \”إما أن أسافر معك الآن وإلا لن أسافر إلى مصر أبداً\”، فكرت أن ألعب معك لعبةً من ألعابك الذهنية: \”لنفترض أننا لم نتقابل لعدة سنوات, ثم تقابلنا بعدها صدفة, قد نعود كما كنا، وربما أفضل بدافع من الحنين\”, فقلت: \”وقد لا نتعرف على بعض بعدها أبداً\”

هل تريدين أن تعرفي ما حدث بعد ذلك؟!

حينما عدت كان الجو ربيعيا, وكنت أقيم بفندق \”سويس إن\”, ووقفت في بلكونة غرفتي أنظر إلى العابرين بالشارع، والذين يحملون أكياس بلاستيكية بأيديهم, وسمعت صوت أجراس الكنيسة المجاورة, فقررت أن أخرج لأشعر أنني قد عدت.. ذهبت إلى بائع الجرائد بوسط المدينة واشتريت جريدة \”لوموند\”، فاستوقفني رجل عجوز يرتدي بدلة أنيقة, وسألني: \”هل أكلت من الشجرة المحرمة؟\”, فقلت له بدون تفكير: \”نعم, أكلت\”, فقال لي: \”قلبي معك.. ستعاني كثيراً ذلك الإحساس بأنك قد طردت من الجنة\”, وتركني الرجل وانصرف بعد أن أشترى النسخة الأخرى من الجريدة الفرنسية.. لوهلة لم أصدق إن كان هذا الحوار قد حدث بالفعل, أم أنه قد هيء لي، وظللت أسير بلا هدى في شوارع المدينة القاهرة حتى وصلت إلى سور حديقة الحيوانات, وهناك بدأت الطيور جميعاً في لفظ مخرجاتها على ملابسي, وبذلك انتقمت مني للحمامة التي أبعدتها عن النافذة ذات يوم.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top