حسام الخولي يكتب: Game of Thrones.. إنطلاقا من "ليالي الحلمية"

قد تبدو مقارنة غريبة, سخيفة, أو -على أقل تقدير- في غير محلها بالمرة. في الواقع هي فعلا كذلك.. لو كانت مقارنة, لكنني هنا فقط سوف \”ابدأ\” من عند المسلسل المصري الشهير خلال عرض هذه الأفكار البسيطة عن المسلسل التليفزيوني الأمريكي، الذي سحر العالم بأجمعه، وتحول إلى ظاهرة مستقلة بذاتها عبر الخمس سنوات الماضية، وبما أن هذه مجرد أفكار وخواطر لا تمت للتحليل النقدي الرصين بصلة، فلقد أعطيت لنفسي الحق أن ابدأ هذه البداية الغريبة.

إذن \”ليالي الحلمية\”, قد يكون ذلك المسلسل بمثابة عنصر تعريفي مهم من العناصر التي عنونت ثقافة جيلي من مواليد أوائل الثمانينيات، وهو كان كذلك بالفعل.. المسلسل الذي عرض على مدار تسعة أعوام منذ 1987 وحتى 1995 كان يعبر خلال تاريخ مصر المعاصر منذ أربعينيات القرن العشرين وحتى مطلع تسعينياته، وكان قد حقق نجاحا ساحقا في بداياته بسبب كتابة \”أسامة أنور عكاشة\” المفعمة بالبهارات الدرامية وإخراج \”إسماعيل عبد الحافظ \”، الذي نجح في استغلالها على الوجه الأمثل، إلى جانب الكثير من الأدوات الأخرى التي ساهمت في منحه مكانته الأيقونية في تاريخ الدراما المصرية مثل موسيقى \”ميشيل المصري\” للمقدمة والنهاية، مع كلمات \”سيد حجاب\” وصوت \”محمد الحلو\”، بالإضافة إلى فريق العمل المميز الذي انطبق عليه بحرفيته مفهوم الـ  Ensemble من حيث إن معظم المشاركين كانوا نجوما بمعنى الكلمة بالمكانة والأداء، ولكل كان طابعه الخاص وأسلوبه الذي لا ينسى، بالذات حينما تقارنهم بأعمال خطوط التجميع التليفزيونية المدعومة بوكالات الإعلانات هذه الأيام، حيث أصبح الكم بالغ الغزارة والتميز الحقيقي أندر من الكبريت الأحمر.

ما علينا, لكن لو لاحظنا السبب الرئيسي – في رأيي-  لنجاح العمل وتمكنه من الاقتراب بشدة من نفوس مشاهديه، وهو أيضا منبع الطاقة الدرامية التي سرت في أوصال العمل, هو أنه كان لا يتابع ملحمة فرد بطل, أو حتى مجموعة صغيرة متناثرة من الشخصيات التي تتفاعل سويا على الشاشة.. كانت \”ليالي الحلمية\” ملحمة عائلية.

كان أبطاله الحقيقيون هم مجموعة من العائلات التي تتحرك كل منها في أطر تحكمها الطبقة والثقافة والتطلعات والأحلام وحراك تاريخ البلاد بأحداثه وتقلباته, شاهدنا هذه العائلات التي وجد كل ممن شاهدوا المسلسل عائلته واحدة منها، ووجد نفسه أحد أفرادها  تتصارع مع بعضها البعض, وتتحالف وتتحاب وتتعارك، وبالمثل حدث هذا داخل العائلة الواحدة, تلك الوحدة الدرامية يقوي أفرادها بعضهم بعضا أمام المشاهد ويساهم ترابطهم – ومشاكلهم أيضا – في تحقيق المزيد من الجذب لمتابعة الأحداث، بالذات في مجتمعنا الذي هو بالأساس مجتمع عائلي/ قبلي إلى حد بعيد.

فسر هذا أيضا – في رأيي- الفتور الذي قوبلت به نهايات هذا المسلسل في موسمه الأخير، حينما تميعت هذه الصراعات وانسحبت إلى خلفية الحدث  لصالح عرض الانتقادات والتعليقات المجتمعية والسياسية للمؤلف عن أحوال البلاد والتغييرات التي أصابتها منذ بدأ عصر الانفتاح.. ومن هذه النقطة نقفز عبر الزمان والمكان إلى مسلسل آخر لا يمكن – ظاهريا – أن يكون أبعد ولا أكثر اختلافا.. Game of Thrones.

العائلة هي الوحدة الدرامية الرئيسية التي تقوم عليها القصة هنا أيضا، وكما كان لدينا عائلة \”البدري\” و\”غانم\” و\”السماحي\”, نجد هناك عائلات -أو بيوت-  \”لانستر\” و\”تارجاريان\” و\”باراثيان\” و\”ستارك\”، لكن نقطة الصراع هنا أضيق وأكثر تحديدا، حيث يبدأ العمل من منتصف الأحداث التي تعرض تاريخ أرض الممالك السبعة, وفي زمان ومكان متخيلان بالكامل حسبما تقتضي قواعد الفانتازيا الفائقة التي تتباعد تماما عن أي ارتباط بواقعنا, وفي أرض \”ويستروس\” الشاسعة التي يحدها -شمالا- حائط ثلجي هائل يفصلها عن عالم بارد مخيف مليء بالأخطارالتي تحاول الزحف عبر الحائط إليها, نتابع صراع هذه العائلات على الوصول والجلوس على \”العرش الحديدي\” الذي يحكم الجالس عليه الممالك السبعة.. إلى جانب عدد لا بأس به من الخطوط الفرعية للقصة.. الانتاج بالغ الضخامة (متوسط تكلفة الحلقة في الموسمين الأخيرين تتجاوز الثمانية مليون دولار)، الذي جعله واحد من أضخم المسلسلات انتاجا في تاريخ التليفزيون، ومنح صناعه حرية هائلة في اتقان أدق التفاصيل وإضافة ما يريدون من مؤثرات بصرية مبهرة، والتصوير في أي بقعة جغرافية يقع اختيارهم عليها (الجزء الأخير تم التصوير به في ثلاث دول مختلفة في نفس الوقت) وتحريك مجاميع ضخمة، والتي استفادوا في هذه النقطة من الشعبية العظيمة للمسلسل، حيث تهافت الآلاف على الانضمام لمجاميع التصوير تطوعا بدون أجر، لمجرد الشعور بالمشاركة في مسلسلهم المفضل.. هذا بالإضافة إلى الكتابة الحادة لمؤلف العمل \”جورج مارتن\” المأخوذ عن رواياته A Song of Ice and fire  الذي لا تأخذه أي رحمة أو شفقة بالمشاهد، ولا يعترف فيها بأي صحة سياسية أو خطوط حمراء أخلاقيا أو مجتمعيا، ففي اللحظة التي تتعلق بها -كمشاهد- بأي من الشخصيات تعاطفا أو إعجابا – وهو قد رسم شخصيات بالغة الجاذبية- تجده قد ذبح أو قتل بأبشع طريقة ممكنة، وبمنتهي التأني والوضوح في التفاصيل.

ستجد أيضا كل ما يمكن أن يكون -بالذات كمشاهد عربي- صادما من جنس وشذوذ وزنا محارم وعنف دموي سادي.. الباقة كلها هناك.

بالرغم من البطء الذي قد تتسم به كثير من الحلقات، إلا أن ما ينتابك أحيانا من الشعور بالملل أثناء المتابعة، تقضي عليه تماما لحظات الإثارة وخفقات القلب أثناء الدقائق القليلة من التوتر والخوف والحماس.. تلك الدقائق التي تزيد من الرغبة في تجاوز المشاهد البطيئة (والتي لا تخلو من جماليات بصرية وحوارية مع هذا) إلى دقائق الإثارة التي تليها.. يبقى أن بعض الحلقات – مثل الحلقة التاسعة من الموسم الرابع – تتكون بالكامل من معارك لا تترك لك مجالا لالتقاط الأنفاس.

ومن العائلات التي تنتمي إليها شخصيات المسلسل، والتي سيجد كل منا أيضا جزء منه في أي منها, إلى الالتزام الذي لا يقبل الحلول الوسط لصناع المسلسل برؤية مؤلف الكتب المأخوذ عنها مهما كانت صادمة أو غير تقليدية أو مكلفة, تكونت هذه المعادلة  التي حققت نجاحا ساحقا, نرجو ألا يأخذ في سكرته أصحابه ويصيبهم الغرور، فيفسدون علينا وعلى مشاهديهم متعتنا التي لا تضاهى بمشاهدة انتاجهم، كما فعل آخرون, ولكي يكون لنا مرة أخرى عودة إلى الحديث عن هذا العمل الفني المهم في المستقبل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top