يمكننا أن نلوم التعليم على كل الأمراض الفكرية التي تسري في العقل الجمعي المصري كالنمل الأحمر النشط في مستعمرة مبنية حديثا تضج بالحركة, ولن نكون مخطئين جدا، لكن التعليم الذي عانى مثلما عانت روافد التنمية الحقيقية الأخرى تحت حكم البطل الفيلسوف ومن بعده الحكيم المستقر بالجامد، وإن كان هو المحرك الرئيسي وراء انتشار هذه الأمراض وتأصلها، إلا أنه واحد من ضمن عشرات الأسباب الأخرى التي لا مجال للحديث عنها تفصيليا هنا.. اليوم سأقوم بعرض مشكلة فقط كما أراها، ولن أحاول أن ألعب دورا يفوق حجمي وقدراتي بكثير في التنظير واقتراح حلول، أنا أول من سيعجز عن تطبيقها لو اتيحت لي الفرصة. هي فقط أفكار تسبب الضيق والحزن أحب بما هو معروف عني من كرم أن أشارك فيها آخرين.
أعرف أستاذا في الجامعة في أحد المجالات الابداعية, كنا نلتقي منذ سنين على مقهى أو نشاهد فيلما ما في السينما.. أقول له لنذهب ونرى الفيلم الفلاني.. هل تعرفه؟ يقول لي لا، وقبل أن ينتهي التتر الافتتاحي للفيلم أجده يطلق سهام الانتقاد والضجر علي متسائلا: كيف يقبل كل مرة أن آخذه لمشاهدة \”حثالة الأفلام\” -على حد تعبيره- بالطبع يمكن للفيلم أن يكون حثالة وهذا حقه بالكامل، لكن هل لاحظ أحد ما حدث هنا؟ إن الأستاذ الفاضل لم يسمح لنفسه بمشاهدة عشر دقائق من الفيلم قبل أن يطلق حكمه.. تصلح هذه الحالة كنموذج صريح على الكيفية التي نحكم بها على الأشياء, إننا نريد ما يشعرنا بالراحة والألفة من اللحظة الأولى.. التعبير المصري الأصيل \”مخه قفل\” لا يأتي من فراغ.. القفل لا يفتح إلا بمفتاح واحد له شكل وتصميم واحد, إن طرأ عليه أي تغيير من أي نوع لن يؤدي مهمته, نحن نريد ما يوافق هذا التصميم داخل أدمغتنا ونرفض بشدة فكرة أن هناك طرق أخرى للتعاطي مع الأشياء وألوان مختلفة من المذاقات والأفكار.
الأهم هنا هو أن الرفض المبني على عدم التجربة يصدر أيضا فكرة لا نخجل منها أبدا وهي ادعاء المعرفة الكلية.. بداية من سيدة الطبقة المتوسطة المثلى التي ترفض أن تجرب طعاما جديدا بالجملة الخالدة المثيرة للغيظ بسذاجتها المفرطة (أنا ماكلش حاجة أنا معرفهاش) يا سلااااام, إلى أن نصل لمن كانوا يرفضون التغيير ويحتقرون ويجرمون من يطالب به فقط من منطلق أن (اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش) والمعرفة الكلية دي بقى موضوع مستقل بذاته تماما.
من الكلمات الدارجة جدا جدا – زيادة عن اللزوم في الواقع- لدينا هي كلمة \”الشعب المصري\”, المصطلح الذي أصبح مرمطونا مثيرا للشفقة، ونحل وبهت من كثرة الاستعمال، حتى بدأت أشك أنه يصف أي شيء موجود على أرض الواقع.. دائما تبدأ به الديباجه في \”آرائنا\” السياسية والمجتمعية بالذات، ثم يهبط على رأسك حكم كلي يقيني بالغ الثقة, (الشعب المصري ده أوسخ شعب في العالم), أو (الشعب المصري ده شعب فوضوي ومفيهوش أمل), أو نجم الليلة وكل ليلة.. الرأي الذي تمتلك أي عاهرة قبيحة ملطخة بالأصباغ في الشارع شرفا وجمالا ونزاهة تفوق من يردده بكثير (الشعب المصري ده أصله ميجيش غير بضرب الجزمة).. طيب.. لن نطالب أي ممن يبدي هذه الآراء أن يكون أستاذا في المنطق أو الفلسفة بالطبع, لكن ليس صعبا على الإطلاق إدراك العيب الجوهري فيها, في الكلمات نفسها حتى بدون النظر إلى مدى ونسبة واقعية ما تشير إليه.. بداية ستكون محظوظا بشكل لا يصدق إن وجدت من يبدأ أو يستهل جملته بكلمات مثل \”أنا شايف\”, \”من رأيي\”, \”أظن\”, \”أعتقد\”، أو غيرها.. هذا هو الشق الأول, من ناحية أخرى ستكون أيضا محظوظا جدا لو وجدت من يبدأ أو يذيل أي حكم قاطع من هذه الأحكام البلهاء بكلمات مثل \”أغلب\”, \”احتمال\”, \”تقريبا\”, \”على الأرجح\”، ومثلها من الكلمات حتى ولو بشكل تجميلي يهدف إلى إضفاء الحد الأدنى من العقلانية على ما يرى أنه الواقع, وهو ليس \”ما يراه\” أي ممن يطلق هذه الأحكام، لكنه الواقع والحقيقية.. هو فقط يؤدي دوره في إبلاغك بها لكي تتنور ولا تنساق وراء الأفكار الخاطئة المتناثرة هنا وهناك! مثل أن هذا الشعب يتكون من تسعين مليون نفس, من المستحيل أن ترى عالم إحصائيات أو مركز بحثي يحترم نفسه يصدر نتيجة ما لا تكون مبنية على استبيان أو دراسة تغطي منه آلاف من المشاركين من كافة الطوائف والطبقات والخلفيات من أجل الوصول إلى استنتاج ما، ومن المستحيل أن يكون مسبوقا بكلمة \”كل\”، الكلمة الأثيرة لدى معظم من يبصقون هذا الهراء في آذاننا، وهم جالسون على القهوة يتباهون بهذا اليقين المريح من بين أنفاس النرجيلة ورشفات الشاي، بينما لم ير ويتعامل معظمهم بشكل حقيقي مع أكثر من عشرات أو مئات الناس، وغالبيتهم بشكل سطحي, مع التناقض البراق أيضا للمثل الذي يقول (تعرف فلان..) الذي نحب ترديده.
إذن نحن متدينون وتقاة ونخاف الله، لكننا معظم الوقت نضع أنفسنا في مكانه مباشرة ونلعب دوره بلا خجل.. نرى كل شيء ونعرف كل شيء بدون أن نجربه أو نحاول الإلمام بجوانبه من بعيد حتى, ونبدي آراء في صيغة الكشف عن حقائق قاطعة باتة جازمة، ونصدرها للآخرين وعليهم، ومن ثم نعود للاتكاء على مقاعدنا براحة وسكينة من أدى دوره وواجبه.. نحتقر القراءة ونرى أنها بلا جدوى، ونعشق من يعبأون المعلومات في كبسولات صغيرة سهلة البلع (مشيها كبسولات).. نعجز تماما عن إدراك التعقيد الكامن في الحياة، وعن رؤية الرمادي من بين الأبيض الفاقع والأسود القاتم الذي لا نرى غيرهما، وإن لم نتمكن من تصنيف الناس تحت أي لافتة من اللافتات الجاهزة، فإننا نتهمهم مباشرة بالغموض الذي لا يخفي وراءه خيرا.
وفي النهاية يعتذر كاتب هذه السطور لأنه قد مارس في متنها كثيرا مما ينتقده هو شخصيا، لكن التماس العذر واجب، لأنه بدوره يحمل تلك الجنسية العظيمة ولا ينتمي لغيرها، ولهذا يطلب السماح والمغفرة.