حسام الخولي يكتب: في عصر التورنتات.. يا أيها السايس ويا أيها الرقيب.. إذهبا إلى الجحيم

كان مشروعا بشكل من الأشكال, ليس مشروعا بمعنى قانوني أو عرفي.. أقصد كانت عملية تحتاج إلى تخطيط وحسابات وترقب وتنسيق والكثير من الأنشطة الأخرى, وككل المشاريع الأخرى يكون من الوارد أن يتعرض للفشل والخسارة. عن الذهاب إلى دار العرض السينمائي أتحدث.. ومازال الأمر كذلك, لكن قد جد جديد منذ ما يقرب من عشر سنوات جعل إلحاح تنفيذ المشروعات المختلفة من هذا النوع أقل وطأة وأكثر قابلية للتجنب، والتعرض لآلام الفشل والخسارة -غالبا عندما تكتشف أن الفيلم ينتمي إلى نوعية القمامة- أكثر احتمالا بكثير.

قبل الحديث عن الجديد الذي جد، يجب أن نتكلم عن شخصيتين رئيسيتين تمثلان طرفي القوس الذي يجب أن يتحرك بداخله كل محب للسينما وعاشق لدباديب كادراتها وموسيقاها وميلودرامتها وكوميديتها وخلافه.. الشخصية الأولى، هي السايس.. السايس أي ذلك الرجل الذي يحمل على كتف واحدة رتبة فوطة صفراء، ويعلن سيطرته على مساحة من الأرض تقدر ببضع عشرات من الأمتار، ويجبي من عابري وراكني هذه الأراضي الضرائب والمكوس للسماح لهم بركن سياراتهم، وهي مشكلة بالطبع لا تواجه من يستعملون المواصلات سواء بإرادتهم أو رغما عنهم، لكن من يستعمل المواصلات منا يواجه ما هو أسوأ بكثير من مجموعة أكبر بكثير من ذلك السايس التعس.

وهذه الشخصية هي الأكثر بروزا في ذلك المشروع بالنسبة لعموم مرتادي دور العرض. أما بالنسبة لذلك النوع الخاص من المرتادين, إذا قمنا بفلترة العشاق الباحثين عن قدر من الخصوصية في المقاعد الخلفية وأرباب العائلات الساعين وراء ملأ خانات واجبات إجازة نهاية الأسبوع بنشاط أكثر إمتاعا وأقل إيلاما من التسوق أو الزيارات العائلية وغيرهم, بالنسبة لمحبي السينما وعشاقها الذين يقومون بالتخطيط بشغف والتنفيذ بحماس من أجل تنفيذ ذلك المشروع الذي يتضمن أموالا منفقة ووقتا ومجهودا مبذولين في كل شيء بداية من الاختيار إلى إقناع الرفاق، وحتى تحمل الكراسي الضيقة وسخافات باقي المشاهدين التي لا تنتهي.

بالنسبة لهذه المجموعة، فإن الشخصية الأخرى التي تقبع على الطرف الآخر من القوس (ليس قوس قزح للأسف) هي التي تمثل العبء، وتسبب لحظات الضيق مثل ذبابة لزجة لا تذهب إلا لتجيئ، فتعكر الصفو وتشوش على الاستمتاع.. ذلك هو موظف حكومي بدرجة حامل مقص.. يخرج من بين الملفات المصفرة والحوائط الملطخة بسواد لا تعرف من أين يأتي، ورائحة الصنان المميزة لكل مصالحنا وهيئاتنا الحكومية عدا مكاتب مديريها العموميين ووزرائها بالطبع.. ذلك الرجل أو – ويا للبؤس- لو كانت امرأة تحمل قبل اسمها لقب \”مدام\”.. كان في العصور السحيقة الغابرة يقوم بوظيفتين.. الأولي هي مهمته في إزالة ما يخدش الحياء العام من شريط العرض السينمائي.. طبعا كان الأمر لا يتوقف هنا, ففي معرض حماسة الموظف لإظهار تفانيه، كان يقوم أيضا بإزالة كل ما يخدش السياسة العامة والإيمان العام والعقل العام والرجولة العامة وغيرها من العموميات حسبما تحيط به رؤيته أو رؤيتها, ولا حاجة طبعا لشرح حجم وأبعاد تلك الرؤية.. الوظيفة الأخرى كانت بالطبع هي مشاهدة الأعمال القادمة بالمراكب كاملة، ومنع عرضها بالكامل إذا كانت جوانب الخدش العامة فيها أكثر مما يحتمله هو وشريط العرض تحت المقص. حتى الحدود هنا كانت دائم غائمة قليلا، فالكثير من الأعمال كانت تعرض بعد أن يتم التعدي عليها وانتهاكها بالحذف، وهناك أعمال أخرى، كانت تسمح بأكثر من المعتاد، بل ويساهم جهل الرقيب في السماح بأكثر من ذلك, وكلنا يتذكر حادثة فيلم The Advocate\’s Devil في التسعينيات، حينما تجلى \”آل باتشينو\” على شاشات العرض بالقاهرة والأسكندرية بعبارات تهاجم الذات الإلهية بوضوح وعنف، ولم يتمكن الرقباء من التعرف على هذا الموضوع، إلا من صفحات الجرائد، بعد أن اشتكى بعض المشاهدين (غالبا من أرباب العائلات سالفي الذكر).

بالإضافة إلى مهامهم في مجال العرض السينمائي، كان للرقباء دور أكبر في العرض التليفزيوني، وحيث إن التليفزيون كان المنفذ الرئيسي لجيلنا البائس، فقد تحملنا كثيرا من تحكمات واختيارات وأحيانا تفضيلات الرقباء والموظفين، حتى بعد عصر الفيديو والأطباق وقنوات الأفلام المتخصصة، التي زادت من الكمية المتاحة للمشاهدة بالطبع، لكنها لم ترحم الأعمال نفسها من نظريات ووجهات نظر اللي مايتسموش.

إلى أن وصلنا لهذا الزمن السعيد – في هذه النقطة فقط على ما أظن- زمن الـ .torrent تلك الملفات الصغيرة الخبيثة.. التي يحمل كل منها وعدا بساعات طوال من المتعة والتسلية.. التورنت بدون التعمق في تفاصيل تقنية معقدة، هو ملف صغير يحمل Metadata أي بيانات لبيانات.. بمعنى أن هذا الملف يعمل كخريطة صغيرة تحدد إحداثيات تنزيل ملف ما من على شبكة الإنترنت من خلال بروتوكول BitTorrtent وهو البروتوكول الذي يسمح لمستخدميه بتنزيل الملف المرغوب عن طريق الحصول عليه كقطع صغيرة من كافة مستخدمي البروتوكول الآخرين، سواء اللذين يملكون الملف كاملا أو من حصلوا بالفعل على أجزاء منه، وهو مخالف للطرق التقليدية لتنزيل الملفات عن طريق الإتصال بحاسب خادم كبير.

هذه الطريقة تسمح بمرونة هائلة في الحصول على ملفات بكل الأحجام الممكنة، وقد نشأت لهذا مجموعات كبيرة ومواقع لا حصر لها للبحث عن وتصنيف وتقديم هذه الملفات بكل أنواعها من الأفلام والأعمال التليفزيونية والألعاب إلى الكتب والبرامج والموسيقى.

حوّل هذا، الرقيب فعليا إلى متفرج لا حول له ولا قوة في مواجهة كل من يمتلك جهاز كمبيوتر وخدمة إنترنت.. أي الجميع تقريبا ممن يهتمون بمشاهدة الأفلام والمسلسلات, وحوّل السايس وسائق التاكسي والأتوبيس وعامل شباك التذاكر وذلك الرجل اللزج صاحب بطارية الإضاءة من ضرورة وواقع يجب تحمله, إلى اختيار نملك مطلق الحق والحرية في قبول تحملهم تبعا للمزاج العام والرغبة في المشاركة وحب مشاهدة أفلام بعينها في صالة العرض على الشاشة الكبيرة.

و بعيدا عن هذه التفاصيل، فقد حقق التورنت ما هو أهم من ذلك بكثير، حيث حطم قيود تاريخية وتقنية ورقابية وتجارية لا حد لها, وفتح لنا مكتبة السينما العالمية بلا حدود منذ قام \” جريفث \” بصناعة Intolerance عام 1916 وقبل ذلك أيضا, وحتى أفلام شباك التذاكر الأمريكي الذي تقوم السيدة \” رايا\” بسردها لنا كل بضع ساعات على قناة MBC .. وصارت أفلام الـSlasher والـ Exploitaiton الشنيعة من السبعينيات جنبا إلى جنب مع أعمال \”انجمار برجمان\” و\” فيلليني\”.. الحديقة مفتوحة تماما, وتحتوي على كل شيء أو تقترب كثيرا من هذا, وكل منتجاتها مجانية لمن يرغب.

تبقى بعد ذلك مسألة حقوق المؤلف وملف القرصنة, حيث تخسر شركات الإنتاج المليارات بسبب بروتوكلات مشاركة الملفات هذه ومستخدميها, أو هكذا صوروا لنا، لكن في الواقع أن الحقيقية تختلف كثيرا عن هذه العناوين النمطية أو على الأقل فإن الأمور قد بدأت تتغير بالفعل, ونحن نشهد بدايات هذا التغيير في السنين الأخيرة, لكن لهذا حديث آخر.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top