حسام الخولي يكتب: سلام عليك “جافروش”.. في مديح الكلجي الأول

– وجاء الولد الأشعث ممزق الثياب من خلف الحاجز.. انطلق ضاحكا يغني أمام رجال مسلحين ينتظرون أن تظهر رأس أحدهم أو جسده من أجل إطلاق النار.

بلا خوف كان الولد يغني ضاحكا وساخرا، مما أشعل غضبهم وزاد من رغبتهم في القتل.

إن المرء ليكون بشعًا في ناتير

وتلك خطيئة فولير

وأحمق في باليسو

وتلك خطيئة روسو*

كانت تلك أغنية \”جافروش\”.. الفتى الصغير الذي خلق شخصيته إبداع \”فيكتور هوجو\” في تحفته \”البؤساء\” سنة 1862.

جافروش طفل الشارع البائس الضاحك المغني، الذي يعيش مع أقرانه في فجوة تمثال الفيل الضخم غير المكتمل بساحة الباستيل في باريس القرن التاسع عشر.. المدينة الجريحة المرهقة بصراعات موجات متتالية من الثورة على عودة مظالم النبلاء والحكم الجائر.

– من بين عشرات المصطلحات والأوصاف والتصانيف التي نبتت ونمت منذ الشرارة الأولى للثورة في يناير 2011، حتى أصبح الأمر وكأن قاموسا جديدا قد ولد، تحمل لفظة \” كلجي\” بالنسبة لي القدر الأكبر من الثراء في الإيحاء والإشارة والاستخدام.

وبالمخالفة للمفترض لغويا، يكشف هذا الوصف ويوضح الكثير عن من يستخدمونه، قبل أن يفعل ذلك بالنسبة لمن يستخدم في وصفهم، وبغض النظر عن طبقة هؤلاء أو مستواهم الاجتماعي، فقد أيقنت أن الكل من القاع للقمة فيه ما فيه من الجيد والفاسد، بل بداخل الشخص الواحد أيضا، ولكن من يستخدمون هذا اللفظ بكثافة يمكن بسهولة تحديد أغلب صفاتهم.. وتلك فيها من القبح وما يدعو للقرف وللإشمئزاز أكثر كثيرا مما يدعو للاحترام أو الإعجاب إن وجد.

أنا لست كابتًا عدلًا

وتلك خطيئة فولتير

أنا عصفور صغير

وتلك خطيئة روسو*

لنفهم هذا يجب مبدئيا أن نعرف قليلا من أين أتت تلك الكلمة البغيضة.. في ثمانينيات القرن الماضي، بدأت في التصاعد ظاهرة لم تكن غريبة تماما على مجتمعنا ومعظم مجتمعات العالم -حقيقة- في أي من الأوقات، ولكن بتلك الفترة ازدادت بضراوة أعداد الأطفال المشردين الذين يتخذون من الشوارع بيوتا لهم، جاء هذا لأسباب اقتصادية في الأساس ومجتمعية بالتبعية، ومع كل ما يصاحب نوعية الحياة هذه من مظاهر المعاناة والبؤس والخطر والاستغلال الذي يتعرضون له، كان من الطبيعي أن يكون أحد هذه المظاهر هو استهلاك المواد المخدرة.. سواء جاء ذلك رغبة في الاندماج والتشبه بالناضجين ممن سبقوهم إلى الشارع وحياة التشرد، أو من يستغلونهم في عمل ما شرعي كان أو غير شرعي، أو من أجل تغييب الوعي وفقد الإحساس بمحيطهم البائس لقليل من الوقت.

الكلة هي مادة كيميائية لاصقة تنتمي لعائلة الـ Solvent Glue، شبيهة بالغراء إلى حد كبير، ولكنها أخف وأكثر قابلية للتطاير، وتستخدم بكثرة في ورش الأحذية، مما يجعلها متداولة ورخيصة الثمن.. يتسبب حرقها في إطلاق مجموعة ضخمة من المواد الكيميائية مثل الأسيتون والتولوين وهو مادة مذيبة.. تأثير هذا الإستنشاق هو تغييب جزئي شبه لحظي للوعي مع العديد من الأعراض الأخرى مثل الهلاوس وحالة من السعادة الشديدة Euphoria. مع تأثيرات مدمرة وسريعة على الصحة الجسدية والعقلية للمستخدم.

هناك ورقة بحثية مهمة للمعهد القومي الأمريكي لبحوث الإدمان تختص بأسباب وآثار إدمان استنشاق المواد المماثلة

(تجد اللينك هنا)

فالصورة هنا هي صورة بالغة القتامة، ارتبطت بأطفال الشوارع، وجاء نحت اللفظة بعد ذلك بسبب استغلال هؤلاء الأطفال من قبل العديد من الأطراف بعد قيام الثورة في أعمال تخريب وتدمير سواء بمقابل مادي أو عن طريق التحريض واستغلال نوازع العنف الموجودة لديهم.

وبينما توصيفات مثل ناشط وثوري وحقوقي، وهي كلمات سيئة السمعة تستخدم في وصم \”اللي خربوا البلد\” بالخيانة والفوضوية، صارت مستهلكة وأصاب الملل سامعيها من المتعطشين لإطلاق المزيد من الإهانات في اتجاه من رأوا أنهم هم السبب في كل ما جاء بعد الثورة من معاناة.

صُكت هنا كلمة \”كلجي\”، وصارت هي الوصف الرسمي الذي انسحب على جميع ما سبق من أوصاف، وصار كل من يرفع صوته اعتراضا أو انتقادا أو حتى ضجرا -وإن كان مخطئا- يوصم بأنه \”كلجي\” حتى ولو انتمى لأرفع فئات المجتمع.

نجح هذا أيضا في حل مشكلة فلسفية عند هؤلاء، فمن ناحية هم يؤمنون إيمانا تاما بتلك الطبقية وبفكرة \”ولاد الناس\” وولاد الكلب تلك، ويتلمظ أحدهم معوجا وهو يردد كالببغاء الأجرب آية \”ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات\” من أجل تبرير نظرته المحنطة، بدون أن يعبأ أو يعلم أساسا أن معنى الآية مختلف تماما عن ما يظن.

ومن ناحية أخرى، كون المحرك الرئيسي للثورة وجل رموزها ينتمون لفئة \”ولاد الناس\” هؤلاء، جعل من إهانتهم وإنزالهم لمستوى \”الكلجية\” ضرورة ملحة، من أجل عزل هؤلاء عن ولاد الناس الحقيقيين الطيبين الوطنيين، الذين يرون كل اختلاف في وجهات النظر خيانة، وكل رأي مغاير للاتجاه السائد دعما للإرهاب، حتى وإن كان تساؤلا عن مغزى تغيير ديكورات مبنى مثلا، أو جدوى مشروع ما، ربما كان له جدوى فعلا أو لا، ولكن الانتقاد في حد ذاته بات يثير الخوف لدى رعديدي \”مش أحسن من سوريا والعراق\”، من ما قد يتبعه، وبالتالي تجد المصطلح جاهزا للاستخدام اللحظي في اتجاه مستحقيه من الـ\”كلجية\”.

وهو حل عبقري في الواقع لأنه كما ذكرنا في البداية، ينم عن نوعية مستخدميه أكثر بكثير مما يفعل في إهانة من يطلق عليهم، فهو يحمل من التعالي والعجرفة قدرا محترما، إلى جانب فكرة قبول وجود هؤلاء الكلجية من الأساس، وكأنهم عرض جانبي من أعراض حياة الرخاء والسعادة التي نحياها، يجب التعايش مع وجوده بقدر من (الإشمئناط) والتسليم بالأمر الواقع، مثل ما نفعل مع الحشرات والهوام التي لا نتمكن من قتلها أو القضاء عليها كلية.

أما ما وراء ذلك من مسؤولية الحكومة قبل المجتمع عن إيجاد حل لمشكلة هؤلاء وتحسين ظروفهم وحمايتهم، فيمكن علاجه بمقدار بسيط من(هما أساسا اللي عايزين يعيشوا في الشارع)، مع جرعة من (ظروف البلد وحالة عدم الاستقرار، وهي الحكومة هتعمل كل حاجة في الدنيا؟!)

– البهجة شيمتي

وتلك خطيئة فولتير

والبؤس جهاز عرسي

وتلك خطيئة روسو**

\”جافروش\” ذلك الصبي النبيل إذن بكل التعريفات الموجودة اليوم، هو \”كلجي\” من الدرجة الأولى، وإن لم يكن يستعمل الكلة، فلا أظن أنها كانت معروفة أيامها، ولم يكن ذلك الولد مهتما بالمخدرات أساسا، فقد كان وعيه وحساسيته وذكاؤه يفوق عظماء عصره وعصرنا هذا أيضا.

هو فقط متشرد، بلا عائلة، رث الثياب ومتسخ طوال الوقت، وهو لص أحيانا وثوري أحيانا أخرى، ليس مسؤولا عن ظروفه وما أوصله لهذه المرحلة، ولكنه لا يلوم أحدا في ذات الوقت، ويعرف كيف ينجو ويبقى، بل ويستمتع هو وأصدقاؤه الذين اعتمدوا عليه معظم الوقت، رغم أنه ليس أكبرهم سنا.

وكما تصم وتدين الرواية من ينظرون له بإحتقار وتعالي، متغاضين عن ظروفه، نجد أنفسنا في موقف يتيح لنا أن نصم من يفعلون مثلهم بأيامنا هذه، ونمنحهم عن طيب خاطر نفس الإدانة.

لقد سقطت على الأرض

هذه خطيئة فولتير

وأنفي في الساقية

هذه خطيئة …. **

** المقاطع المترجمة من رواية البؤساء منقولة عن مدونة \”مصطفي رجب\” حكايات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top