أصدقائي الأعزاء.. أكتب إليكم من علي مسافة آمنة لأسباب لا تخفي على أحد, متحصنا بغرفتي الصغيرة ومنزلي المتواضع وشارعي العشوائي, ومتسترا وراء الحقيقة الراسخة كونكم لا تتواجدون إلا في عالم الخيال وعلى شاشات السينما والتلفاز.. ربنا يستر.
أصدقائي.. وأرجو ألا تأخذوا كلماتي على محمل الإهانة (هذا سهل بالنسبة لكم، لأنكم توقفتم منذ زمن طويل عن إدراك مفهوم الإهانة أساسا.. أو أي مفهوم آخر على العموم).. أنتم من أبشع الأشياء التي يمكن أن تقع عليها العين.. بحق, لأسباب واضحة وهي أنه من بين كل ألوان القبح والأشياء المثيرة للاشمئزاز والخوف التي يمكن أن تمر من أمامنا، فإن أكثرها تأثيرا هي ما تتعلق بالإنسان ذاته.. حينما يصيبه المرض أو التشوه لأي سبب من الأسباب, ذلك لأنه ليس قبح المنظر فقط هو الذي يصدمنا، بل إنه يتعلق بمن هو على شاكلتنا، وكيف يمكن أن تصيب وجوهنا وأجسادنا نحن عوادي الدهر وشرور البشر الآخرين، فتجتمع الصدمة في القيم الجمالية مع الرعب والتعاطف التلقائي في مزيج بالغ التأثير, ولهذا نحبكم, وإن لم نصرح بهذا.
سنة 1968.. قام شاب أمريكي من أصل كوبي، كان يتحسس خطاه في مجال صناعة السينما منذ أن تخرج بالتعاون مع تسعة من زملائه وأصدقائه لصناعة فيلم رعب، كانت أقصي أمنياتهم أن يحقق لهم قدرا مقبولا من الأرباح، وأن يكون خطوة للفت انتباه رجال الصناعة الكبار لهم من أجل تنفيذ مشروعات أكبر في المستقبل.. قام كل منهم بدفع 600 دولار ليجمعوا – مبدئيا- ستة آلاف لبدء العمل، وتمكنوا من جمع مبلغ أكبر من ذلك -لاحقا- لاستكمال الفيلم الذي بلغت ميزانيته 114 ألف دولار.. لم يكن \”جورج روميرو\” الذي بدأ حياته العملية في صناعة أفلام إعلانية قصيرة، ولا أي من أعضاء مجموعته يتخيلون في أقصى أحلامهم أن يتحول فيلم Night of the Living Dead إلى نقطة تغيير وعلامة فاصلة بارزة في تاريخ الصناعة، ويحقق أرباحا تعدت الثلاثين مليون دولار، ولم تتوقف إلى هذه اللحظة.
لماذا يقدم أي إنسان سليم الفطرة ومتزن العقل بإرادته الحرة بمشاهدة أي شيء له علاقة بكم؟ كيانات بشرية تمشي مترنحة (مؤخرا ربنا كرمكم وبقيتوا تجروا هوا).. وجوه مشوهة تتساقط أنوفها وتظهر عظامها.. عيونكم البيضاء تماما، وأصواتكم الحلقية التي تزمجر بلا كلمات.. بسيطة, ليس منا من هو سليم الفطرة أو متزن العقل.. ليس على الإطلاق بالطبع، لكن تلك الأقلية التي لا تزال محتفظة بهذه الأشياء الثمينة في زماننا هذا تمثل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، ولا ينفيها (لسعادة المنتجين والمخرجين في هوليوود).. أنتم الزومبي الذين تظهرون أسوأ ما فينا وتجعلونه ممتعا أيضا.. كل نوازع العنف والقتل والرغبة في الإنطلاق في لا مجتمع كابوسي، لا تحكمه أي قواعد أو قوانين سوى القوة أو القدرة على الهجوم أو الهرب, وتمثل أفلامكم ومسلسلاتكم التي تخطت المائتين منذ عام 1932 آداة مهمة جدا، إذ تخلق قناة لتصريف هذا السوء في اتجاه ما، بدلا من أن يخرج بشكل أبشع مما هو حاصل فعلا.
أفلام الزومبي موجودة من بداية الثلاثينيات في الواقع، ومنذ فيلم White Zombie سنة 1932 مثلت تيمة متواترة في قائمة موضوعات أفلام الرعب الرديئة منخفضة التكلفة، التي صار بعض منها كلاسيكيات بعد ذلك، لكن الشكل الذي نراه الآن يختلف تماما عن هذه البدايات, حيث إن تلك الكائنات البشرية المريعة كانت أكثر لطفا وإثارة للشفقة أيامها، وكانت معتمدة على فكرة السحر المرتبطة بفودو الكاريبي الشهير، حيث يقوم الساحر بقتل ضحاياه، ومن ثم يعيدهم إلى الحياة بسحره، لكن في حالة من غياب العقل التام، حيث يسيطر عليهم للعمل تحت إمرته، وكانت التنويعات في القصص تحول الساحر إلى عالم مجنون أحيانا، وكان للنازيين نصيبا لا يستهان به في هذا السياق, حتى أصبحت فكرة الجندي النازي الزومبي واحدة من النماذج الأيقونية في العديد من الوسائط من ألعاب الفيديو إلى الأفلام، ولم تكن سحناتهم بهذه البشاعة التي صارت علامة مميزة الآن.. من ناحية لانخفاض المستوى التقني للإنتاج بسبب ضعف الميزانيات، ومن ناحية أخرى لأن السينما عموما والرعب بالذات وحتى أواخر الستينيات لم تكن قد وصلت إلى درجة الجرأة وعدم التقيد التي ميزت الأعمال بعد ذلك، والتي أخذت في دفع سقف التجريب والفظاعة حتى وصلت لمراحل لا يمكن الحديث عنها أو مشاهدتها بدون أن تترك آثارا نفسية سيئة بحق.
Night of the Living Dead خلق حالة مختلفة, وأسس لقواعد صارت دستورا، قلما تجد من يبتعد عنها تماما في عشرات الأفلام التي أنتجت على هذه الشاكلة لاحقا، وإن تطورت وتشعبت أشكال أخرى وصارت ألوانا فرعية.. من أهمها فكرة القيامة التي تتحدث عن انهيار تام للحضارة البشرية تحت وطأة مرض أو فيروس يحول غالبية البشر إلى موتى أحياء.. يسعون إلى التهام لحم القلائل من تعساء الحظ الذين لم يصبهم المرض بعد، أو على الأقل إصابتهم بعضة تحولهم بدورهم إلى موتى أحياء.
أصدقائي الأعزاء.. بعيدا عن المشاعر السلبية التي نشعر بها تجاهكم, لا يمكن لكاتب هذه السطور المتواضعة أن يحيط بمدى الأهمية التي تمثلونها لنا.. نحن المشاهدون من سكان عالم الواقع المريض بالظلم وعدم المساواة وألوان الشر البشري التي لا حد لها ولا حصر, والتي تتضاءل أمامها نوازعكم البسيطة لالتهام أجساد وعقول ضحاياكم الذين يوقعهم حظهم العاثر في طريق سيركم المترنح وتجمعاتكم التي تفيض بالرغبة في الدماء الحارة وتستمد قوتها المميتة من تراكمية أعدادكم والانعدام التام للخوف، أو الرغبة في المحافظة علي النفس.
في حياتنا نحن البشر من الآلام والإحباطات الكثير، وفي نفوسنا أطياف من الخوف والكراهية تجاه بعضنا البعض.. تساهمون أنتم في تفجيرها على الشاشات.. مع كل رصاصة تطلقها شخصية لتحطم رأس أحدكم وكل سيارة تنطلق لتدهس منكم العشرات، تجد تلك المخاوف والكراهية مجالا للحركة من داخل الجوانب المظلمة لدينا، لتتحول إلى تشجيع وحماسة للأبطال في الفيلم أو المسلسل.
بشكل ما فإن كل منا يرى القسم الأكبر من مجتمعه ومحيطه البشري كزومبي غير عاقل لا نفع منه ولا هدف، إلا إضافة المزيد من المعاناة والألم, من السائقين الأغبياء وشحاذي الشوارع، إلى السياسيين وأهل السلطة بقراراتهم المؤذية ووجوههم المنفرة.. تلعب هذه الأعمال بالذات على أوتار مشاعر المراهقين الذين يمتلكون طاقة نفسية كبيرة، لتحمل بشاعاتها وأحاسيس قوية بالاغتراب والانفصال عن بيئتهم ورفضها أحيانا، وأيضا المشاهدون من الطبقة المتوسطة الذين يتزايد لديهم الشعور بعدم الأمان والقلق من التقلبات الاقتصادية ومن المستقبل الضبابي، والذي يتأجج بوقود أخبار الكوارث ومناخ الخلل في المساواة والرعب من ثورة للجياع في الطبقات الأدنى بكل مآسيها.. تجرف بعنف عارم المنطقة التي يقفون فيها بينها وبين الطبقات الأعلى.
تكفي نظرة واحدة على يوم فقط من البوستات على الفيس بوك لنرى كيف يمكن لنا أو لأي ممن نعرفهم أن يقبل تماما فكرة أن العالم مليء بالكائنات الشائهة، والتي تسعى لإيذائه هو شخصيا لمجرد أنه أفضل منهم، يعلم الله وحده في ماذا! وأن إحدى الرغبات الدفينة العزيزة لدينا هي أن تتاح لنا الفرصة لممارسة الأنشطة المحررة للروح التي يمارسها أبطال الأفلام من هذا النوع.
وفي نهاية الرسالة أرجو التماس العذر، إذا كنت قد أسأت الأدب معكم أصدقائي، لكن صدقوني، فإنكم في مكان أفضل كثيرا من غالبيتنا, لذا نرى يوما بعد يوم كثيرا منا، يفضل أن يتحول تدريجيا إلى واحد منكم، وإن احتفظ بمظهره الخارجي المنمق.. وفي الختام دائما سلام.