اسمحوا لي مبدئيا بأن اعترف اعترافا سيمنح بعضا من المنطقية للطريقة التي سأعرض بها هذه الأفكار خلال شهرنا الكريم المظلوم هذا.. أنا بالغ التحيز ضد الدراما التليفزيونية العربية والمصرية على وجه الخصوص.. ها نحن ذا بلا مواربة, صديقكم هذا متحيز وغير موضوعي ويحمل الكثير من العداء لمعظم ما يخرج من منظومة الانتاج الكبيرة التي تكثف من نشاطها بشكل محموم كل عام في الشهور القليلة التي تسبق رمضان، لكي تغرقنا بهذا الكم المهول من الأعمال التي تخرج أيضا بكم مهول من الرداءة والسذاجة والسطحية، لكن لي أسبابي التي سأحتفظ بها للمرة القادمة.. أما اليوم، فإننا على موعد مع رحلة صيد ممتعة، لكن للحكاية قدر من تمهيد واجب.
كان الهدف والاقتراح الناتج عنه بالتبعية، هو أن أقوم بالكتابة عن بعض من مسلسلات هذا الشهر بمجرد مشاهدة حلقة واحدة فقط، وبلا أي قيود من الموضوعية والحياد، وبصراحة أرى أن هذا وإن كان يخالف ما هو سائد من وجوب عدم الحكم على الكتاب من عنوانه، إلا أنه في رأيي هو مستحق جدا، ولا تشوبه شائبة من عدم العدالة, أولا وباستعارة عبارة كاتبنا العظيم الدكتور \”أحمد خالد توفيق\”، بأنه ليس من الضروري أن تشرب كوب العصير كاملا لكي تدرك أنه فاسد ورديء، وكم الرداءة التي تتصاعد عاما بعد عام يكفي عشرات من النقاد المتعطشين للدماء أمثالي, من ناحية أخرى فإن آلة التحالف التجاري / الفني الديناصورية تلك، قد أصابت الرغبة الإنسانية الطبيعية البسيطة جدا في الاستمتاع بالدراما بإصابات بالغة, إن لم يكن من طوفان الإعلانات التي تتكون في الواقع من عدد قليل من العلامات التجارية القادرة على تكاليف دقائق الإعلان الفلكية في رمضان، لكنها تتكرر بشكل مكثف ولا تترك للمشاهد مساحة معقولة للمتابعة، فمن اجتماع انخفاض المستوى الملحوظ والسعي وراء الغرائبية أو الكآبة والميلودرامية المبالغة إلى تكرار التيمات التي حققت نجاحا في السابق مرة بعد مرة حتى فقدت معناها وتأثيرها.
ما حدث أن السعي وراء هذا الهدف، كان أكثر تعقيدا وصعوبة مما ظننت, من يشاهد قناة \”ناشينوال جيوجرافيك\” بشكل منتظم، سيدرك ما أتحدث عنه بسرعة, بداية وبالفعل لم أتمكن من اللحاق بحلقة كاملة واحدة من أي مسلسل, كلما قمت بالتركيز، وجدت الحلقة تختبئ في أدغال من الفقرات الاعلانية المكثفة, التي كانت تكراريتها فوق قدرتي على الاحتمال، فكنت انتقل إلى قناة أخرى لأتابع قدرا من مسلسل آخر، حتى تنتهي الإعلانات لأجد بعد دقائق معدودة فقرة إعلانية أخرى, أحاول العودة للمسلسل الأول لأكون قد نسيت ما الذي كنت أتابعه منذ البداية, وهكذا. حينما بدأ هذا الايقاع في الانتظام، وجدت أمامي مشكلة أخرى, هناك أعمال قوية فعلا.. بادية فيها الجدية وقدر محترم من الاتقان والجهد، فأحجمت عن معركة خاسرة، وبدأت في مطاردة فرد آخر من أفراد القطيع.. غامض جدا ومستعصي على الفهم من متابعة لفترة قصيرة, فرد ثالث.. المزيد من الإعلانات والعمل؟ حتى لمحت عيني الفريسة المناسبة لافتتاح هذه الرحلة.. ضعيف, به كم محترم جدا من البلاهة.. ذلك هو عمل الثنائي \”فيفي عبده\” و\”سمية الخشاب\”.. مسلسل \”يانا يانتي\”.
وللأسباب السابق ذكرها، لا أجد في الواقع أي غضاضة في الانقضاض على هذا المسلسل / الجريمة في حق عقل المشاهد العادي، الذي لم يصب بعد بالتخلف من جراء التلوث وانحطاط التعليم ومشاهدة هذه النوعية من القمامة الدرامية.. ربما حتى كنوع من
أنواع التدريب قبل الالتفات لفرائس أكثر قوة ومراوغة, ذلك وبعد مشاهدة حلقة واحدة منه أجد نفسي مبهورا بالسهولة التي يمكن بها تمزيق ذلك المسلسل / السبوبة إلى عناصره الأولية التافهة، ولكلمة السبوبة هنا موقع مهم، فكل ما في العمل ينطق بالتوجه إلى شرائح معينة من المشاهدين, حققت معها شعبية كبيرة في السابق هذه المعادلة من الردح و الإثارة الجنسية الرخيصة بالإيحاءات والإيماءات وقصص النجاح النسوية المعتمدة بشكل أساسي علي كل المهارات الدنيا التي يتمنى مشاهدي المسلسل من الشريحة المستهدفة لو تمكنوا من اكتسابها واستخدامها لتحقيق النجاح المادي والمجتمعي الفاقع الذي يصوره وسيصوره بكل تأكيد العمل في حلقاته اللاحقة.
المسلسل (على طريقة صفحة الفن بأخبار اليوم) يحكي قصة سيدتان من وسط متواضع تسعيان للتغلب على ظروفهما وتحقيق النجاح في مواجهة العديد من المشاكل، بالنسبة لي هذه الجملة وحدها تقرأ كما تقرأ \”أرجوك لا تشاهد هذا الكلام الفارغ\” بالضبط.
المشكلة هنا والأكثر إثارة للانتباه، هو عجز كاتب السطور التام عن تحديد الـ \”فورمات\” الذي يتبناه المسلسل, هل هو كوميدي؟ لحظات الميلودراما الكثيرة المصحوبة بموسيقى غثة وغير متسقة أو موظفة بمهارة تقول العكس.. اذن فهو مسلسل تراجيدي.. استظراف \”فيفي عبده\” الذي شهدت منه لمحه بسيطة كانت كافية لإصابتي بالقرحة يقول أيضا العكس.. إذن هو \”تراجيكوميك\”، أو كوميديا سوداء, على بعض من العناصر البوليسية والرومانتيكية والاجتماعية والسياسية أيضا كنوع من أنواع \”الجارنيش\”.. حينها جاء إلي التوصيف المثالي.. إنه عمل \”فخفخينا\”.. نعم هو كذلك (راجع مثل كوب العصير).. مصحوب بآداء مجموعة من الممثلين الثانويين من أردأ ما يمكن الحصول عليه في السوق.. أضف بعضا من المشاهد الكلاسيكية في السينما والدراما المصرية.. مشهد دخول البطل/البطلة المظلوم إلى الحبس في قسم الشرطة رهن التحقيق ومواجهته لعدائية البلطجية / العاهرات غير المبررة.. مشهد الرومانسية، حيث يقول الشاب لحبيبته إن عيد ميلاده هو يوم أن رآها.. مشهد الردح في \”الحارة\” حينما يقوم شاب ضخم ثقيل اللسان بالتحرش بـ \”بنت الحارة\”.. كل هذا في حلقة واحدة فقط, كنز من الجواهر النقدية التي يسيل لها اللعاب، وحينما تدرك أن بطلتا المسلسل تلقب إحدهما بـ \”دواهي\” والأخرى بـ \”سهوكة\” (لم أتمكن من تحديد أيهما تسمى بأي اسم رغم محاولتي التركيز في هذه النقطة).. تكون قد وقفت منتصرا فوق فريستك الصريعة التي لم تبذل أي مجهود في الواقع و…. وأستأذن القارئ الكريم في الانصراف الآن، لأنني علي الأرجح قد أصبت بالتسمم, إلى الفريسة القادمة إذن.