تخدمنا السينما, والدراما عموما على الكثير من المستويات، وتوفر إشباعا لمن يمتلك القدرة على استيعاب ما هو أعمق من ظاهر مجرد التسلية وتمضية وقتل الوقت.. ليس معنى هذا أن التسلية شيء مرفوض, في الواقع فإن النظرة النخبوية المتعالية تجاه ما هو ممتع للسواد الأعظم من المتلقين قد تسببت في العديد من المشاكل على مر تاريخ هذا الفن بالذات، لكن لهذا حديث آخر.
تقوم الدراما بمخاطبة وتحاول إضاءة العديد من المناطق الداكنة فينا.. مناطق معرفية, ونفسية واجتماعية وسياسية وغيرها كثير.. هنا سنحاول تسليط الضوء على إحدى هذه الإضاءات المهمة التي تمارسها الدراما، والتي تمثل نقطة خلافية لا بأس بها أيضا على مر الزمن بين النقاد، وهي كيف تقوم الدراما بقولبة شخصيات بعينها لاستخدامها في الأحداث والصراعات المختلفة .. الشخصيات هنا هي الشخصيات أو الأنماط الجاهزة.. ما يطلق عليها Stock Characters أو الـ Archetype إذا استخدمنا المصطلح الأكثر شيوعا في علم النفس.. لا تحتاج تلك لمجهود كبير من صانع الدراما في رسم أبعادها وتفاصيلها، فكما قلنا هي شخصية جاهزة.. أي أنه اتفق على خصائص وصفات معينة لا تخرج عنا إلا قليلا، وتضيف الدراما إلى ذلك الوظيفة والشكل والمسار الذي تتخذه تلك الشخصية في الأحداث بناء على طبيعتها تلك المتفق عليها بشكل غير رسمي.
يعيب النقاد على هذا النوع من الشخصيات الصفة الرئيسية المميزة لها، ألا وهي القولبة والتي في رأيهم تضعف العمل وتنزع منه إحدى أهم عناصر الفن، وهي كيفية التعاطي مع الحالة الإنسانية عموما التي تتسم بتنوع وفردية أكثر بكثير من الصورة التي يتم تقديمها، لكن من وجهة نظر أخرى فإن حياتنا مليئة بالأنماط المماثلة بالذات في التفاعلات الأقل عمقا بين البشر في حياتهم اليومية، وتسهم السينما في تجسيد تلك الأنماط التي تثري العمل الدرامي إذا تم استخدامها بذكاء، والتي أيضا تمنحنا فرصة أكبر للسخرية (وهي متعة خاصة في حد ذاتها) إذا لم يتم ذلك.
ذلك الرجل المسكين.. البائس, الذي يتعرض للضرب والإهانة والإذلال من الجميع.. من الأشرار الذين يعمل طائعا تحت إمرتهم، والأخيار الأبطال الذين يحاربهم لمصلحة النوع الأول, من المشاهدين, وهو لا يدرك كم هو مهم.. التابع أو الـ Henchman الذي يقوم بالأدوار المساعدة للشخصيات الشريرة في الأعمال الدرامية.. هل هو في الحقيقة كليشيه خيالي ساذج أم أنه موجود في واقعنا بشكل أكبر مما نظن، وهم ربما أكثر واقعية بكثير من مساعد البطل أو Side Kick .. ربما من حيث أن عالمنا يفتقر بشكل حاد للأبطال، بينما يعاني من وفرة غزيرة في الأشرار والمجرمين.
فكروا بهذه الطريقة.. الشر موجود لا جدال, حتى وإن لم يكن شر العالم المجنون منكوش الشعر الذي يخلق مسوخا وأسلحة عجيبة في معمله بإحدى قلاع العصور الوسطى، أو ذلك الرجل فاحش الثراء الذي يستخدم ثروته وطموحه في التخطيط لمحاولات السيطرة على العالم برمته على طريقة أفلام \”بوند\”، ولكل من هؤلاء تابعيه ومساعديه الذين ساهمت السينما في تخليدهم ليحظوا بشهرة تكاد تناطح شهرة أبطال تلك الأعمال، فهناك \”إيجور\” الأحدب الذي صار رمزا مستقلا من رموز أفلام الرعب القوطي والخيال العلمي، وهناك ذلك الرجل العملاق ذو الأسنان المعدنية وزميله الآسيوي السمين الذي كان يستخدم قبعته حادة الحواف في قطع رؤوس أعداء سيده، وحتي ذلك القزم اللطيف في
The man with the golden gun و\” Mini Me\” في الفيلم الهزلي Austin powers ويدخل في هذه الزمرة أيضا كل الرجال أصحاب اليونيفورم الموحد الذي لا توجد لهم أي وظيفة سوى أن يقتلهم البطل كالذباب وأن يحاولون هم قتله بشتى الطرق، فيفشلون فشلا ذريعا ليقوم سيدهم الشرير بعد ذلك بقتلهم عقابا على هذا الفشل.
الشر في واقعنا أكثر خطرا وأثقل ظلا وأكثر إثارة للاشمئزاز من تلك الشخصيات المسلية على الشاشة.. من لوردات ومجرمي الحرب وتجار المخدرات والسلاح وحتي رجال المال والأعمال المحتكرين، والسياسيين الفاسدين والمديرين القساة منخفضي الذكاء وغيرهم.. لكل من هؤلاء \”هنشماناته\”، وكلنا يعرف في حياته الشخصية واحدا أو اثنين من هؤلاء، ويعرف في واقعه وعالمه كثيرا غيرهم, ربما لا يرتدون زيا موحدا, ولا يتعرضون للضرب والإهانة طوال الوقت من سادتهم أو القتل إذا كان مزاج هؤلاء السادة متعكرا بشكل استثنائي، لكنهم يؤدون كثيرا من الوظائف المشابهة لأقرانهم على الشاشة، فتوكل إليهم كل الأعمال القذرة التي قد تلطخ سمعة السادة وصورتهم اللامعة إذا تورطوا فيها مباشرة, وبما أنهم شخصيات تتسم بالوضاعة بشكل أصيل، فإنه من السهل السيطرة عليهم ومن السهل التخلص من أحدهم ككبش فداء إذا لزم الأمر وتأزم الموقف.
فتش في حياتك وبلدك عن الـ \”هنش مان\” وستجده ملقى في كل مكان، والمغزى هنا ليس في تحديد الطريقة الأمثل للتعامل معه أو معهم, فالأفعى لا تموت بقطع ذيلها أبدا، لكن من المفيد أن نضع اللافتة المناسبة دائما على صدر من يستحقها، بالذات لو كان وجوده هو شخصيا في الواقع أكثر نطقا بالتسطيح والسذاجة من أقرانها على الشاشة.. الذين لا يعكرون صفو حياتنا بما يتجاوز مدة الفيلم في الصالة أو زر الريموت كنترول لو لم نكن نرغب في مزيد من التعرض لوجودهم اللزج.