\”في يوم ما.. ستحسم المقارنة – إن صح طرح مثل هذه المقارنة – بين المسرحي الأعظم \”ويليام شكسبير\”، وبين -عمنا- شيخ الرواية العربية وحكيمها \”نجيب محفوظ\”
وإن كنت لأراهن، فإن رهاني لن يكون على الأول، وبكثير من الثقة -من بين الجواهر العظيمة التي تركها لنا أستاذنا جميعا- \”نجيب محفوظ\”، لا تقف هذه الرواية الصغيرة الساحرة – وبكثير من الإجحاف- في المصاف الأولى.. ربما لأنها لم تحظ من قبل بمعالجة درامية، سواء سينمائية أو تليفزيونية، رغم أننا لا نجد -ربما- عملا واحدا في أي من الجهتين تمكن بشكل كامل من مضاهاة جزء من عبقرية كلمات الرجل، أو بنائه القصصي البارع، وكثير من تلك الأعمال سقط تماما في هذا الاختبار، بالذات في فترة الثمانينيات التي حدث فيها أن صارت \”الحرافيش\” -مثلا- اكتشافا نتج عنه كثير من الأعمال، وأغلبها كان مؤسفا مع الرأفة.
ربما أيضا لأنها جاءت متأخرة (كتبت في بداية الثمانينيات) بعد أن رسخت رواياته الكبيرة مكانتها كالجبال الرواسي في وعي القارئ العربي، وصارت \”الثلاثية\” و\”أولاد حارتنا\” و\”الحرافيش\” و\”زقاق المدق\” وغيرها، هي أهم ملامح العالم المحفوظي شديد التميز والامتاع.
أو ربما لأنها – وهذا في رأيي السبب الأكثر قربا من الحقيقة – كانت أكثر حداثية وتفردا في تقديم معالجة فلسفية وزمانية لقصة وحالة إنسانية يشترك فيها أبطالها.. معالجة كانت أكثر تجريبا وجرأة بكثير مما كانت عقلية عموم القراء -في تلك الفترة- قادرة على استيعابها أو على الأقل تذوقها بالشكل الصحيح، وهذا ما جعل صناع الدراما مترددين في تبنيها على الشاشة، وهي كانت سابقة أيضا على تجربة روائية قريبة منها من حيث البناء غير الخطي، الذي يبدو معقدا \”حديث الصباح والمساء\” التي نشرت عام 1987.
لماذا إذن أثرت المقارنة بين عمنا نجيب وبين \”شكسبير\” في البداية، رغم اختلاف الوسيط الأدبي والأدوات والزمن، وكل شيء آخر تقريبا بين كليهما؟!
فكرة المسرحية بداخل العمل الأدبي، أو مثلما نقول في السينما (الفيلم داخل الفيلم) ليست جديدة.. فقد نفذها \”شكسبير\” في \”هاملت\”، ربما لنفس الغرض الذي قدمت به في \”أفراح القبة\”، وهو خلق عمل تمثيلي أمام أبطال العمل الأصلي، يعرض لا لأمور متخيلة أو قصص وحكايات، ولكن ليعرض أمامهم الحقيقة كما وقعت.. الحقيقة التي يخجلون منها.. يشعرون بالعار أو يريدون إخفاءها أو نسيانها.. أي أن حقيقة الأبطال ودواخل أنفسهم الداكنة، ستظهر أمامهم وأمام الآخرين من أجل استثارة ردود الأفعال، التي لن تفلح في استثارتها المواجهة المباشرة مع من يريد تعريتهم أمام أنفسهم.
ولأن الإبداع -كما نقول دائما- هو خلق حالات وأفكار جديدة باستخدام عناصر موجودة بالفعل، فقد أثرى عمنا \”نجيب\” الفكرة، وأضاف لها بعدا آخر، حينما جعل الأبطال في عمله بكل ذنوبهم وخطاياهم وماضيهم المشين.. جعلهم هم أنفسهم أبطال العمل المسرحي الذي يلعبون فيه أدوارهم الحقيقية في الحياة أمام الجمهور.. محولا إياهم إلى أدوات تعذيب لذواتهم الخاصة، بإجبارهم على الاعتراف لفظا وأداءا يوميا بخطاياهم، أمام جمهور لا يقلل جهله البديهي وعدم إدراكه لهذه الحقيقة من قدرتها على إيلام أبطالها.
هذا العام.. أخيرا نتمكن من مشاهدة رؤية درامية جيدة جدا لهذه الرواية المظلومة.. رؤية وضع وبدأ صياغتها وعمل على جزء كبير منها المؤلف \”محمد أمين راضي\”، ومن ثم تركها لعدد من الخلافات الإبداعية والتنفيذية، لتكملها \”نشوى زايد\”، ومن إخراج \”محمد ياسين\”.. شاهدنا حتى الآن مجموعة من الحلقات في مسلسل \”أفراح القبة\”، أقل ما توصف به أنها واعدة جدا.. بداية من الاهتمام الكبير بالتفاصيل على الشاشة، والتي جاءت مخلصة جدا للفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث أواخر السبعينيات، وحتى مباراة الأداء المتقن بالغ الصدق من كل فريق العمل – أضعفهم جمال سليمان حتى هذه اللحظة- فنرى \”منى زكي\” وقد ألقت إلى الأبد عباءة الفتاة الصغيرة المليحة خفيفة الظل، أو الأرستقراطية \”المودرن\”، أو الرومانسية الحالمة الرقيقة، لنجد أمامنا دور \”تحية\”.. تبث فيه الفتاة التي نضجت وتركت الشرنقة، طاقة أدائية وسحرا غامضا وتيارا من المشاعر والحالات التي تتلون داخلها في سلاسة وصدق بلا تكلف أو تزيد.
\”منى زكي\” في دور \”تحية\” بهذا العمل، تعيد اكتشاف نفسها كممثلة من العيار الثقيل، وتجبرنا على ألا نرفع أعيننا عنها، وعلى أن نعود جميعا مراهقين منجذبين بلا تعقل.. نكتب الشعر الرديء ونستمع حالمين لأغاني \”عبد الحليم\” وموسيقى المسلسل لـ\”هشام نزيه\” المتألق دائما.
لا يقلل هذا أبدا من الأداء العظيم والمجهود الواضح لكل أبطال العمل.. ولبراعة مخرجه \”محمد ياسين\” الذي نحييه على جرأته في تقديم عمل روائي، لا يمكن وصفه بكونه سهلا أو بسيطا في المتابعة (غالبا يجب أن تتابع المسلسل من اللحظة الأولى بدون انقطاع، لأنه سيصعب كثيرا على الاستيعاب لو لم تفعل).
وبالطبع التحية واجبة لمحمد ياسين على جمعه ما بين الإخلاص لروح وفلسفة النص الأصلي، وبين تقديم رؤيته الخاصة التي تضيف للنص ولا تنتقص من عظمته أو صدقه في تقديم هذه الحالة الإنسانية بحدتها وشجنها، وكل ما حملته من متعة للقارئ، وستحمله للمشاهد، أو هكذا نأمل.