جابر طاحون يكتب: انطباعات "وراء الفردوس"

ربما إنشاء عالم بواسطة غبار الكلمات الناعم، يصلح تعريفا للفن الروائي.  الكلمة كسعي لا يتوقف وراء الأشياء، مقاربة لتنوعها اللانهائي أحيانا، أو بحثًا عن جوهرها أحيانا.

فى إحدى مؤلفاته يقول \”جاليليو\” محاججا أحد خصومه : \”إذا كان الحديث حول مشكلة صعبة يشبه حمل الأثقال، حيث يستطيع عدد كبير من الخيول، حمل أكياس حبوب أكثر مما يحمل حصان واحد، فسأسلم بأن أحاديث عدة تؤدى الغرض، أفضل من حديث واحد. لكن الحديث يشبه المسير وليس الحمل\”.

\”الحديث يشبه المسير\”.. إيمان \”جاليليو\” بالأسلوب والتعقل، أن تسرع بتمهل وتقتصد فى المعالجة.

أسلوب \”وراء الفردوس\” للكاتبة منصورة عز الدين، المتراوح بين السرعة والتروي والاستطراد.

السرعة، الرشاقة، الحركية، السهولة والانتقال من موضوع لآخر، التوليد الداخلي لقصة من أخرى.                                                   القفزات والغموض المرغوب، أو كما آمن \”جياكو موليو باردي\” أن اللغة كلما كانت –بتعقل- أشد غموضا لا تحددا، أصبحت أكثر شاعرية. غموض اللايقين والمتعة واللاتحدد.

كتابة المسار البيضاوي؛ أكثر من مركز، فقدان الخيط، والعثور عليه ثانية بعد أكثر من انعطاف واستدارة، الأمر الذى يبدو محاكاة لأحاجي الحياة.

الاستطراد يبدو أحيانا استراتيجية للابتعاد قدر الإمكان عن النهاية، لمضاعفة الزمن، مراوغة دائمة، هرب.. هرب من ماذا؟ الموت؟ الأسرار الخاصة؟ المشاكل المجتمعية المحيطة؟ البحث التوحد والتماثل؟ الأفكار المشوشة والبحث عن طريقة لابتلاعها.

لولا تحديدات الزمن، بزمن مصانع الطوب والثمانينيات وما ترتب عليه فى البناء، لكان زمن الرواية -مع الراوي العليم المطعم بالحوار- كزمن الأدب الشعبي؛ تقنية القصّ الشفاهي: \”يجرى الزمن بلا زمن\”.

السيارة التي شهدت نقل الخضار والفاكهة، والتي استحالت مرتعا للصدأ،  البيوت، البستان والأشجار، مصانع للطوب وتجريف الأرض، إغلاق المصانع والتحول لمصانع الطوب من الطفلة.. مشاهد حشد، مشاهد حركة متعددة غير يقينية، مرتبكة غير منتظمة، مشاهد ظهور واختفاء غامضة، والشعور بالخوف والمتعة معًا.

تلك المشاهد،  شاهد جيد، على تطويع اللغة لتصبح لغة الأشياء، بادئة منها وعائدة إليها، وقد تغيرت بكل السمات التي أضفيت عليها وأضفتها هي على البشر.

استرجاع الأحداث، من هو البطل؟ جغرافية الحكاية وكيف تجري الأمور.. تطعيم الرواية بالعديد من الثيمات؛ الأحلام، تحولات حياة الريف، الصراع، وما يعتمل في النفوس بين المسلمين والمسيحيين.

العوالم الكثيرة المرتبطة بشخوص الرواية ومشاهد حياتهم وصراعهم الداخلي.. عالم \”سلمى\” ومحاولاتها الدائمة للبدء من جديد \”بروح شابة وذكريات أقل ألما\” وعلاقتها المتوترة مع \”جميلة\”، و\”رشيد\” والد \”سلمى\” الشخصية المميزة والغارق في ذاته، و\”سميح\” شقيقه الذي يحاول اجتنابهم ويلجأ إلى البستان ليفلحه..  دفء التعاطف الإنساني والصراع الناتج عن الغيرة أحيانا ورغبة في مكان آخر أحيانا.

تشابك الأحداث والشخوص في محاولة للبحث عن ماهية لصورة المجتمع المتشابك، ومحاولة للوصول إلى الفردوس.. الأرضى الغائب وراء الخواطر القديمة \”المغلفة بضباب النسيان\” ورؤية ما هو غائبة حقيقته دون رتوش أو تمويهات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top