الحديث دائمًا عن طغيان الرواية وخفوت القصة القصيرة والشعر قد يبدو \”كليشيه\”، لوجود مجموعات قصصية مبهرة وتنال الإعجاب والانتشار، ولها أيضًا نكهتها الخاصة.. مجموعة \”رمش العين\” مثلًا.
ربما قصص \”رمش العين\” ليست غرائبية، اللهم إلا \”الخروج من الليل\” و\”القيلولة\” بعض الشيء، إلا أن بورخيس كان ليسعد كثيرًا بقراءة هذه المجموعة.. هو المنحاز للقصة والشعر؛ وأنهما سيبقيان -ولا أفاضل- لا الرواية. في القصة -والكلام لبورخيس- يمكن أن يصبح كل شيء مهمًا، أو على درجة من الأهمية.
من القصة \”يا عيسى\” مفتتح المجموعة، حتى \”رمش العين\” التي وُسمت المجموعة باسمها، كل تفصيل وكل لقطة على درجة من الأهمية.
اللقطات قد تبدو سطحية أو مشاهد عادية، لكن الفضل فضل الصياغة، صياغة البساطة.
\”يا عيسى\” وسرد (الفلاش باك).. يا عيسى، صرخة سلمى، زوجة سيف، قبل دخولها غرفة العمليات.
من عيسى؟ السؤال الذي سيؤرق سيف.. لا يعرف عيسى ومن يكون بالنسبة لسلمى؟ لا يجد ما يهتدي به، لا يقدر على الحزن الكامل، ولا الاستسلام للخديعة.. حاول الشك في كلام الممرضة، و أن الأمر كأنه اختلط عليه، لكن الطبيبة كررت نفس ما قالته الممرضة. يسأل أختًا؟ صديقة؟ الخوف والتردد يمنعانه.
سيف الذي نادته البنت في الميكروباص: \”يا عمو\”، وخالته تنصحه بالزواج قبل أن يكون نصيبه واحدة \”خرج بيت\”. عيسى؟ القشة التي ستقصم ظهر حياته.
\”استدعاء\” وجحيم القرار ووجود الواحد أمام نفسه.. هل يقتل؟ السلاح مرخص، وأبوه عاجز أمامه، وأمه تمسح الدمعة من عينها.
حاول أن يأخذهم ليعيشا معه.. كل ما حاول ألا يتورط فيه و ما ظن أنه نجا منه، مشكلات أبوه، هو فيها الآن. يقتل؟ أمسك بالطبنجة -التي أثقل مما ظن- وأخرجها من الشباك، لكن يده ترتعش.
\”الخروج من الليل\”، بعدما حاول المرور من الأشخاص المتخيلين، يجلس بالكرسي خلف سواق الميكروباص، يظن أنه يستفيق من أنفاس الدخان الأزرق التي يشارك فيها صديقه سيد، يستفيق على صوت هاتف السواق، بنفس النغمة التي يخصصها لهاتفه، يعطيه السائق الهاتف ويقول له: \”المدام\”.. سلوى تطمئن عليه، وهو غير متزوج بها من الأساس، بل قد رفضته عدة مرات.
يمكن للناس أن يبقوا بعيدين عن الموت ما لم يغيروا عاداتهم فجأة، ليس منهجا علميا، لكن هذا ما يعتقد فيه سعيد عامر في \”قيلولة\” عن خبراته المباشرة.
الكوابيس تداهمه، استعان بخبرات زميل مخضرم ولا فائدة.. حكى كوابيسه لزميله، فحكي زميله كوابيسه، فأحس هو بمدى تفاهة كوابيسه .
يوم مسك رجل مجنون في الشارع برقبته يعتصرها، وحين لم ينجح رجلان شجاعان في تخليصه \”استحضر أملا طفيفا\” وتمنى أن يكون مجرد كابوس آخر.
الحقيقة ليست واحدة، الحقيقة أكثر من منظور.. كل شيء نسبي.. كلٌ يحاول هندسة حقيقته على هواه.. هناك حقيقة مُدعاة، ورغم ذلك لا يمكن دحضها، أو الفرار من سطوتها.. هناك من يحارب طواحين الهواء.
الذاكرة وفجواتها.. محاولة استدعائها وترميمها.. حضور الواحد بين ذلك وإنكاره.. الرغبة في محاولة السيطرة على الأمور.. الضياع والبحث عن مسار.. محاولة اتخاذ قرار، والخسارة.. السقوط العمودي، والذنب وسؤال الوحدة.
القصص متفاوتة الطول.. تنحية الأقنعة، وإفساح السرد للصورة الماثلة دون وسيط.. الرواي ضمير المتكلم في غالبية القصص، للحيوية، وأرضية ملائمة لأسئلة البحث وسرد الخسارة والذنب.. تطعيم السرد أحيانا بالحوار المتراوح بين العامية والفصحى.
رهافة اللغة وبراعة اللقطات، ومشهدية الأحداث الخاصة.. البناء المتمهل والمتهادي.. الجنوح للسرد الروائي بعض الشيء.. السرد البسيط والسلس، وتماس المادة الخام لشريط القص مع الواقع، والانسجام مع الرؤية .
الواقع المتصدع والمهتز.. الشخصيات دون ملامح فعلية ودون نهايات مفهومة أو معلومات أحيانا، ليتسع التأويل.
تصعب المفاضلة بين قصة وأخرى.. من يهتم بالبحث عن عيوب يمكن بسهولة أن يجدها في أي عمل، ورغم ذلك لكل عمل كماله الخاص، ولـ \”رمش العين\” للكاتب محمد خير كمالها وسحرها الخاصين.