تقادم الخطيب يكتب: الدولة والمسرح والمجتمع

المجتمعات الغربية ببنيتها المختلطة والمتداخلة وبعلمانيتها التي تتناسب طرديا مع علمانية دولها؛ وبسياق التطور الطبيعي التي مرت به تلك المجتمعات والتفاعلات الكثيرة التي أدت إلى ظهور علم الاجتماع الغربي بصيغه المختلفة، والتي قدمت قراءة واعية لتلك المجتمعات ومستويات تكوينه وعوامل الضعف والخلل فيه؛ ومن بين الإشكاليات التي ظهرت في تلك المجتمعات عملية دمج الأقليات/الأجانب؛ ويقاس تقدم المجتمع الغربي في هذه الآونة من خلال قدرته علي دمج أكبر قدر من الأقليات/الأجانب داخله؛ غير أن بعض السياقات التاريخية قد تقف حائلا أو تثير العديد من الأسئلة في مقابل عملية الدمج تلك؛ مثل الخوف على هوية المجتمع أو تعداد سكانه الأصليين أو لغته، وكذلك خصائصه التي تميزه عن غيره؛ ولعل هذه الأسئلة تدور في فلك المجتمعات التي كانت شبه منغلقة وتنظر إلى نفسها بصورة استعلائية من خلال الجنس/العرق؛ ويعتبر المجتمع الألماني أحد تلك النماذج التي كان لهذه الظواهر نصيب في سياق تطوره؛ ولعل خوض المعارك وهزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية انعكس على بنية المجتمع الألماني؛ فبعد انتهاء الحرب، قدم العديد من الجنسيات المختلفة لإعادة بناء الدولة، خاصة من أوربا الشرقية وكذلك تركيا؛ وظن الألمان أن هذه الجنسيات ستساهم في إعادة بناء الدولة، ثم تعود إلى بلادها مرة أخرى، إلا أنها استوطنت واندمجت بصورة أكبر داخل المجتمع، وأصبح لها أجيال متتالية تصل إلى الجيل الرابع، وبالتالي هي ألمانية الجنسية، لكنها من أصول أخرى؛ وكونت وجودها الخاص بها داخل المجتمع الألماني وأنشأت قوتها الاقتصادية والمعرفية المؤسسة على أساس اقتصادي حقيقي ينازع الألمان الأصليين أنفسهم.

استطاع هؤلاء أن يحافظوا على هويتهم الجمعية في مقابل الهوية الألمانية، وهو ما يعني ظهور نوع من التضاد والصراع حول السيطرة على هوية المجتمع وفرض هوية معينه عليه.

يتميز الألمان بالميل إلى قلة الإنجاب، في المقابل يفضّل الأتراك كثرة الأبناء؛ مما يعني تدريجيا تقلص تعداد الألمان، وتزايد عدد الأتراك.. في الآونة الأخيرة، انتبهت الحكومة لذلك، وسنت عددا من القوانين لتشجيع المرأة الألمانية على الإنجاب، في محاولة منها لكبح جماح النمو التركي وتمترسه خلف هويته ولغته التي يفضّل الحديث بها.

لم ينفصل المسرح عن مجتمعه، بل هو مرآة تعكس كل شيء؛ وتقدم الدولة له كل الدعم على جميع المستويات، وفي ذات مرة في إحدى مسارح برلين العريقة.. كانت هناك مسرحية اجتماعية أبطالها ألمان من أصول تركية وألمان أصليون؛ وفي مشهد من مشاهد المسرحية، قال أحد الممثلين: نحن الأتراك سنتخذ من برلين عاصمة ثانية لنا، وستكون برلين هي أسطنبول الثانية، وبعد 10 أو 20 سنة سنكون نحن أصحاب السيادة في تلك الدولة.. بعدها مباشرة صفق الجمهور بحرارة؛ فتعجبت من ذلك.. سألت أحد الجالسين بجواري، ويبدو أنه ألماني الأصل: لماذا صفقتم في ذلك المشهد وبعد تلك الجملة تحديدا؟ فرد قائلا: لأن مسرحنا لازال بخير.. يعكس الواقع دون مجاملة أو مواربة، وينبهنا لما نحن مقبلون عليه؛ فقلت: وهل فهمتم كلكم ذلك المعنى بصورة واحدة؛ رد قائلا: حينما كنت طفلا كان أبي يأتي بي لهذا المسرح، لأتعلم أن الفن قيمة، وأنه يعكس الواقع، وكلما كان المجتمع قويا كلما كان الفن قويا ومرآة صادقة لقضايا مجتمعه؛ وأنا كذلك لدي أطفال وآتي بهم لهذا المسرح عند عرض مسرحيات خاصة بهم، لنعلمهم أن القيمة أيضا تورث، وأن الإنسان هو القيمة الحقيقية في هذا الوجود، وأن الفن طريقا لنعرف قيمنا وحقيقة مجتمعاتنا.

أخذني الصمت بعيدا ولم أرد عليه سوى بكلمة واحدة: شكرا لإجابتك، وأخذني التفكير بعيدا إلى حالتنا وحالة مجتمعنا وكيف هيمنت الدولة على الفن كما هيمنت على الدين؛ وتذكرت مقال الناقد الفرنسي رولات بارت \”موت المؤلف\”، وقلت: حقا إنه موت الفن لدينا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top