تقادم الخطيب يكتب: الحجاب بين الإسلاميين والعلمانيين

قرابة قرن من الزمان ومن كل حين لآخر يتجدد الجدل والنزاع حول بعض القضايا٬ وفي كل مرة يكون أبطال هذا الجدل العلمانيون والإسلاميون على حد سواء، بين من يرى في نفسه مدافعا عن الدين، وبين من يري في نفسه مدافعا عن العقلانية والتنوير والعلمانية، وكلاهما على استعداد أن يموت في سبيل ما يفهمه وما يريد أن يفرضه على الناس.

جاء فهم الإسلاميين للآية التي وردت في سورة الأحزاب ملتبسا ومختلطا، فتارة يسمونه الخمار وتارة يسمونه النقاب، بينما المقصود به هو غطاء الرأس، لكن الإسلاميين أخضعوا الأمر برمته لتفسيرهم الشخصي، وأنزلوا الأمور في غير موضعها.

ومع نشأة الوهابية وارتباطها بسياق الملك وإقامة فهم للدين على طريقتها، وسعيها منذ البداية لخصخصة الدين ولفرضه بطريقة قسرية على الناس، ظهر التدين الوهابي بأشكاله المختلفة، والذي يتسم العديد من جوانبها بالبداوة والبعد عن روح الإسلام ومقاصده، ولقد ساهم في انتشار هذا النموذج تغول المال الخليجي بعد الطفرة البترولية، ليصبح الخليج سوقا يجتذب العمالة، وهنا بدأ التأثير والتأثر في نقل هذا النموذج المحلي لفهم الدين إلى بلاد تلك العمالة الوافدة، ومن بين تلك الأشكال المنقولة ما يطلق عليه النقاب، ومع مرور الوقت أصبح جزءا أصيلا ومذهبا يجب الدفاع عنه باعتباره من صحيح الدين وصلبه، بل تمدد الأمر في المجال الاجتماعي العام وأصبح معيارا لقياس مدى تدين المرأة وقوة إيمانها، وعلى أساس منه يتم اختيارها كشريك للحياة!

لقد نسى هؤلاء أن وجه المرأة ليس بعورة – كما يدعون – فلو كان كذلك لما كشفته في الحج وهو الفريضة الكبرى.. في المقابل يرى العلمانيون أن الحجاب هو علامة على التخلف والرجعية، وضد العلمانية وقيمها، ومن حين لآخر تخرج الدعوة ممن يطلقون على أنفسهم صفة \”العلمانيين العرب\” إلى خلع الحجاب والتخلص منه، والحقيقة أن الأمر بكامله يقع ضمن الحريات الشخصية التي لا يحق لأحد المساس بها، فقد شرع الله حرية الاعتقاد كما جاء في الآية: \”فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر\”، وكفلت العلمانية حيادية الدولة تجاه مواطنيها دون التدخل في حياتهم أو معتقداتهم.

وبنظرة عامة على سياق هذا الصراع، نجد أن الإسلاميين لم يفهموا الدين في إطار مقاصده العليا، والعلمانيين لم يفهموا العلمانية في سياق تطورها التاريخي، فهم ليسوا بإسلاميين وليسوا بعلمانيين، وأنا هنا لا أقصد التعميم لأن التعميم في حد ذاته خطأ منهجي كبير، بل اقصد الغالبية ممن يطلقون على أنفسهم صفة إسلاميين وعلمانيين. في الجانب الآخر لم نر واحدا من الإسلاميين أو العلمانيين سدد سهم نقده للدولة بمفهومها العام المجرد- وليس الخاص أي الحكومة أو النظام السياسي- بينما هذا الخلط بين الأمرين ) الدولة/النظام الحاكم ( قائم في أذهان الكثيرين، حتى ممن يطلقون على أنفسهم لقب كبار المثقفين في مصر!

وهذا ليس بمستغرب في دولة لم يحدث فيها أي نوع من التطوير في بنيتها السياسية أو التعليمية أو المنظومة المجتمعية، بل اعتمدت فقط على استيراد نماذج للتدين وللحرية من مجتمعات أخرى لها طبيعة خاصة وبنية مختلفة، تم ذلك أيضا بالتوازي مع سيطرة الدولة على كل مناحي الحياة، وفرض إرادتها بالقمع وبطبقة المثقفين ورجال الدين التي أنتجتهم، والأمر كله ليس بغريب على فريقين.. أحدهما يقول بحرية الاعتقاد، لكنه يرى في المخالف لدينه كافرا، والآخر يؤمن بالديمقراطية، بينما لا حرج عنده في قمع المعارضين له، بل واستباحة دمائهم.

كان التسابق الحقيقي لكل منهما -ولازال- هو الحفاظ على بنية تلك الدولة بصيغتها القمعية، لتحقق أهدافه دون النظر إلى الأمور الأساسية التي تتعلق بالمواطن وحقوقه وحقه في الحرية والعيش الكريم والتعليم الجيد والنظام الصحي وتطبيق مبدأ المساواة، فالإسلاميون يسعون إلى خصخصة الدين ويتخذونه آداة ومصدرا لقوتهم، ولم يحاولوا أن يفهموه في إطاره العام ومقاصده العليا، والعلمانيون يسعون إلى خصخصة العلمانية واحتكار فهمها، متناسين أن أوروبا حينما حاولت أن تفرض العلمانية بصورة قسرية، تخلخت المجتعمات ونشأت الصراعات والحروب.

لم يفهم العلمانيون العرب أن الحرية الشخصية هي جزء من العلمانية والتنوير اللذين يدعون لاعتناقهما، فبدلا من شغل أنفسهم بإطلاق الدعوات لخلع كذا أو لبس كذا أو التدخل في حياة الناس الشخصية.. كان عليهم أن يعملوا على قضايا مجتمعية أساسية، مثل الحريات والديمقراطيات وتطوير شكل الدولة وإيجاد صيغة لها، وكيفية الاستفادة من بنية الدولة في العالم الغربي مهد العلمانية وانطلاقها ووجهتهم التي يتجهون إليها ويتخذونها مرجعية.

الإسلاميون والعلمانيون في المجتمعات العربية وخاصة في دولة كمصر ببنيتها المتهاكلة، ونظامها الاجتماعي المترهل ومنظومتها التعليمة المتآكلة وأمية شعبها التي بلغت ،45%، يستغلون هذا ليفرض كل فريق رؤيته التي تخدم أهدافه فقط وتحقق له السيطرة على المجتمع.

هنا في أوربا وفي مهد التمرد الديني الذي كان على يد مارتن لوثر.. هنا في ألمانيا وفي أعرق الجامعات الألمانية/الأوروبية أجلس في قاعات المحاضرات وحولي العديد من المحجبات وغير المحجبات.. كلا الفريقين يستمع إلى محاضرات في نقد الدين وتطوره.. لم يعلق أي بروفيسور في يوم من الأيام على ملبس أحد، ولم يفرق بين أحد على أساس من الدين أو اللون أو العرق، بل الجميع سواسية أمامه، وهم جميعا سواسية أمام الدولة.. لا يستطيع أحد أيا كان أن يفرض رؤيته على أحد.

منذ فترة دار جدل كبير في ألمانيا حول المسلمات المحجبات اللاتي يرتدين الحجاب في المدارس والجامعات، خصوصا إذا كن من العاملات في قطاع التعليم، وتأثير ذلك على التلاميذ، ورأى البعض أن ذلك يمثل تهديدا للمجتمع الألماني وقيمه العلمانية ومكوناته وهويته ومحاولة أسلمته، وانطلقت الدعوات لمنع الحجاب في المدارس والجامعات، ورفعت الدعاوى القضائية، ومنذ شهرين جاء حكم المحكمة العليا الألمانية، ليرفض تلك الدعوات التي تطالب بمنع الحجاب في الجامعات والمدارس، وجاء في حيثيات الحكم التي استند عليها، أن تلك الدعاوى بمثابة تدخل صارخ في حياة الأشخاص، وتهدد قيم الحرية الشخصية التي هي حق مقدس لا يمكن المساس به، وإن هذه الدعاوى تحاول أن تفرض رؤية أحادية على المجتمع، وتؤدي إلى تكرار تجارب ومآسي حدثت في الماضي، وذكرت المحكمة أيضا أن التعددية التي يشهدها المجتمع الألماني دليل على قوته وتماسكه.

وهنا الرسالة الحقيقية: متى يفهم الإسلاميون صحيح الإسلام، ومتى يفهم العلمانيون جوهر العلمانية؟ ومتى يفهمون أن الأنسان هو الموضوع والجوهر الأساسي للدين؟

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top