تامر موافي يكتب: إنت فين يا جهاد؟

يقف الشيخ الأعمى في الساحة يروي لمن تحلقوا حوله حكاية محمود وجهاد مع التتار غلاظ القلوب الذين تجتاح حشودهم الممالك فتسقط عروش سلاطينها وتدمر مدنها وترتكب الفظائع بحق سكانها. وفي نهاية الحكاية يصيح الشيخ من أعماق قلبه المكلوم مناديا \”جهاد.. إنت فين يا جهاد؟\”

بالنسبة لأبناء جيلي لا يوجد لدي أدنى شك في أنهم يذكرون هذا المشهد جيدا. لا أستطيع أن أكون على القدر ذاته من الثقة فيما يتعلق بالأجيال التي عاشت طفولتها وبدأت علاقتها المبكرة بالتليفزيون في النصف الثاني من التسعينيات وما بعدها. ففي حين كانت خيارات المشاهدة للأفلام السينمائية من خلال التليفزيون محدودة للغاية في السبعينيات والثمانينيات، اتسعت هذه الخيارات بمعدل كبير للغاية مع ظهور القنوات الفضائية وانتشار الدش في التسعينيات. ثم أضافت الإنترنت مجالا للاختيار توسع بسرعة حتى يكاد اليوم يكون بلا حدود.

في السبعينيات وقت أن ولدت وعشت طفولتي كان فيلم \”وإسلاماه\” من المقررات الدورية للعرض على شاشة التليفزيون المصري ذو القناتين العاملتين لعدد محدود من ساعات اليوم، ولم يكن ثمة مفر من أن يشكل هذا الفيلم وعدد من الأفلام متكررة العرض حينها، جزءً مهما من الوعي التاريخي لمن عاشوا طفولتهم في هذا الوقت. الفيلم نفسه كان متميزا من الناحية الفنية وهو ما يفسر انبهارنا به حينها. عامل مهم في جاذبية الفيلم كان روعة الأزياء والاكسسوارات التي صممها الفنان الراحل \”شادي عبد السلام\”. لكن الحدوتة أيضا كانت مثيرة لخيالنا كصغار. ولسنوات تالية، يختلف عددها حسب ظروف كل منا، كانت حدوتة الفيلم تمثل الحقيقة التاريخية.

في حالتي لم تمتد هذه السنوات كثيرا، فقد قرأت الرواية المفترض أن الفيلم مأخوذ عنها في سن مبكر قبل أن أدرسها بعد سنوات أخرى، حيث كانت مقررة على طلاب الصف الثاني الثانوي. وأذكر جيدا مدى دهشتي لاكتشاف كم ابتعد الفيلم عن الرواية. أحد المفاجآت كانت أن شخصية \”بلطاي\” (أي اسم هذا على أي حال؟) التي أداها وحش الشاشة الفنان فريد شوقي لم يكن لها أي وجود بالرواية الأصلية. من ناحية أخرى أزعجني كثيرا أن الرواية تؤكد أن قطز (أحمد مظهر) قد قتل سيف الدين أقطاي (محمود المليجي) بأمر من عز الدين أيبك (عماد حمدي) والملكة شجر الدر (تحية كاريوكا). لا يبدو أن قطز كان مثاليا جدا كما صوره الفيلم. كان مثاليا في حدود، كما ترسم شخصيته الرواية التي تقدم مبررات التخلص من سيف الدين أقطاي في إطار مصلحة الدولة التي كان تنازع كبار أمراء المماليك ينذر بتفككها في لحظة تاريخية معقدة وحاسمة. اكتشفت أيضا أن بيبرس وقطز لم يكونا أصدقاء. في الواقع لم يكونا بنفس المكانة أصلا كما يظهران في الفيلم. فبيبرس كان من كبار أمراء المماليك الصالحية (مماليك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب)، في حين كان قطز مملوكا لأحد هؤلاء الأمراء وهو عز الدين أيبك.

قفزة جديدة على طريق الفصل بين الوقائع التاريخية في حدود ما يمكننا معرفته من كتب التاريخ وبين عالم الخيال المنسوج حولها في الأدب القصصي أو الفن السينمائي، تحققت لي عندما بدأت الاطلاع على كتابات تاريخية حديثة أو على حوليات المؤرخين القدامى، كابن كثير والعيني. وينبغي هنا ملاحظة أن كتب التاريخ المقررة عليَّ في المراحل التعليمية المختلفة لم يكن لها أي دور يذكر في هذه القفزة. وقد أدركت منذ وقت مبكر أن عمومية هذه الكتب كانت متعمدة فيما يتعلق بكثير من الوقائع التاريخية، فهذه العمومية والاختصار الناتج عنها جعلت من الممكن تجنب ذكر بعض التفاصيل المزعجة لمن كان وعيه التاريخي قد شكلته أفلام تقدم له أبطالا قوميين وليس شخصيات لها أدوار تاريخية مهمة وإن لم تكن مثالية بالقدر الذي تتطلبه شخصية البطل.

يعتمد علي أحمد باكثير، صاحب رواية \”وإسلاماه\” على قصة غير مؤكدة عن نسب السلطان المظفر سيف الدين قطز ثالث سلاطين المماليك، وينسج باكثير من هذه القصة أساس روايته مع إضافة شخصيات خيالية متعددة أهمها \”جهاد\” نفسها. المزعج أن القصة غير الموثقة عن أصل قطز تستخدم على أنها حقيقة حتى في كتب التاريخ المقررة في المدارس المصرية. وعلى صفحة ويكيبيديا العربية الخاصة بقطز تظهر جهاد نفسها كشخصية حقيقية، ويذكر كاتب الصفحة بين المصادر التاريخية رواية علي أحمد باكثير! كاتب الصفحة أيضا يؤكد أن قطز رغم قصر مدة حكمه (حوالي سنة واحدة) هو أهم سلاطين المماليك! وهذا ليس صحيحا من الناحية التاريخية. فعلى الرغم من أهمية انتصار قطز على المغول في موقعة عين جالوت، فليس صحيحا أن هذا النصر وحده كان كافيا لحماية مصر من خطر المغول، وقد احتاج خلفاء قطز وأهمهم بلا أدنى شك السلطان الظاهر بيبرس إلى خوض معارك متعددة ضد المغول والصليبيين قبل أن تتحقق لهم السيادة الكاملة على الشام بالإضافة إلى مصر.

بيبرس هو بالتأكيد أكثر سلاطين المماليك البحرية بروزا وأكثرهم نجاحا في حملاته الحربية وإليه وحده يمكن نسبة ترسيخ حكم المماليك في مصر والشام. ولكن لسبب ما لم يبد بيبرس مرشحا للعب دور البطل القومي لهذه الفترة من تاريخ مصر. وذلك على الرغم من أن الخيال الشعبي قد خلد شخصيته في أهم ملحمة شعبية حفظها الرواة لتصل إلينا من هذه الفترة. وفي هذه الملحمة الشعبية ستجد أن قصة نشأة قطز يتم نسبتها مع بعض التعديلات إلى بيبرس. فما هي مشكلة الظاهر بيبرس؟ ربما لأن دوره التاريخي رغم أهميته الكبيرة لا يمكن اختزاله في واقعة حاسمة مثل عين جالوت في حالة قطز (أو معركة حطين في حالة صلاح الدين الأيوبي). المعركة الحاسمة واللحظة التاريخية التي تفصل بشكل حاد بين ما قبلها وما بعدها لهما أهمية بالغة في الكتابة الاختزالية للتاريخ التي تهدف قبل أي شيء إلى تصويره كسلسلة من فترات الازدهار ثم الانحسار والتعرض لمحنة تكالب الأعداء على الوطن التي يخرجه منها البطل المخلص في معركة ملحمية حاسمة تنتزع الوطن من براثن خطر الضياع.

عندما نعيد النظر في الفيلم السينمائي الذي كان واحدا من أضخم ما أنتجته سينما الدولة في الفترة الناصرية على ضوء فكرة صناعة البطل لا تعود انحرافات أحداث الفيلم عن الرواية المأخوذ عنها وعن الوقائع التاريخية ناتجة عن متطلبات الدراما وإنما تتناسب أكثر مع المتطلبات السياسية لصنع البطل القومي المثالي. فإضافة إلى تبرئة قطز من قتل سيف الدين أقطاي (أحد أبطال معركة المنصورة التي أوقفت الحملة الصليبية على مصر بقيادة لويس التاسع)، يبرئ الفيلم قطز من المسؤولية عن قتل شجرة الدر التي كان هو من أزاحها وسلمها إلى زوجة أيبك الأولى التي أمرت غلمانها بقتلها خنقا وضربا بالقباقيب وبإلقاء جثمانها عند سفح المقطم ينتهك حرمتها العوام! كما أن الفيلم لا يتعرض لحقيقة أن قطز بعدما أزاح شجرة الدر لصالح ابن استاذه المنصور عاد فخلعه ليجعل من نفسه سلطانا مستغلا غياب الأمراء الأعلى مرتبة منه كبيبرس والذين فروا خشية أن تنالهم مؤامرات عز الدين أيبك للاستئثار بالحكم فيكون لهم نفس مصير أقطاي. بدلا من ذلك يقدم لنا الفيلم مشهدا عجائبيا يتساءل فيه رسول هولاكو عمن عليه أن يخاطب عندما يرغب في توجيه رسالته إلى الشعب المصري (مصطلح الشعب أصلا لم يكن له وجود في هذا العهد) وفي تحول درامي مثير يتقدم قطز قائلا إن بإمكان الرسول أن يخاطبه ويرد على الرسالة المهينة (غير ذات العلاقة برسالة هولاكو الحقيقية التي كتبها له كاتب عربي بفصحى راقية واستشهد فيها بآيات من القرآن) بأن يقطعها بسيفه ثم يرفعه الناس إلى العرش فيما ينسحب رسل المغول خائبين. (جدير بالذكر أن قطز الحقيقي قد قتل رسل المغول إليه). الهدف من هذا المشهد وغيره إضافة إلى استكمال الصورة المثالية لقطز هو إسباغ صورة الخيار الشعبي عليه. فهو بطل تقدم لتحمل المسؤولية في لحظة حرجة، لكنه أيضا مثل الخيار الشعبي في هذه اللحظة.

لا يتسع المجال لتناول الاشارات المختلفة التي يتشكل منها هذا العمل الفني والتي تتصل جميعها بفكرة صناعة البطل. لكن من السهل ملاحظة أنه سواء في هذا الفيلم وغيره أو في الأعمال الروائية المتعددة، بل وفي كتب التاريخ الرسمية التي كتبت في نفس الفترة كان ثمة سمتان أساسيتان يتم التأكيد عليهما في عملية إعادة صناعة التاريخ القومي، اللحظة التاريخية (الأزمة وأطماع الخارج) من جانب والبطل المخلص الذي ينتدب نفسه ثم تختاره الجماهير من جانب آخر. السمتان هما بالتأكيد حجرا زاوية في السردية (الحكاية) المؤسسة للدولة القومية الناصرية بصفة خاصة. ونجاح هذه الفترة في تأسيس الذات الوطنية للمصريين على هاتين السمتين واضح بجلاء رغم تراجع الخطاب الناصري طوال أكثر من ثلاثة عقود، في أن ورثة دولة عبد الناصر لم يجدوا صعوبة في أعادة استخدامهما في لحظة تاريخية بدا فيها أن هذه الدولة في طريقها إلى الزوال.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top