صباح الجمعة 25 أغسطس 1967…
أرتفع صوت جرس الهاتف عاليًا في فيلا المشير عبد الحكيم عامر بشارع الطحاوية بمحافظة الجيزة، تردد عامر قليلًا قبل أن يتخذ قراره ويرفع السماعة، كان عبد الناصر على الطرف الآخر، تحدث معه بطريقة ودية لم تخل من المزاح، أثارت ريبة عامر، لكنه استشعر خيرًا كثيرًا بذلك الاتصال، وفي نهاية المكالمة دعاه ناصر لتناول العشاء معه فى منزله في مساء نفس اليوم، ووعده أن يسترضيه، تردد عامر قليلًا ثم أجاب بالموافقة، حذره رجاله المعتصمين معه من تلبية دعوة الرئيس، لكنه لم يكن ليضيع الفرصة لعودة المياه إلى مجاريها بينه وبين ناصر، فضرب بتحذيراتهم عرض الحائط، لكنه أصطحب معه بعض رجاله من باب الحيطة وتوخي الحذر.
في الساعة التاسعة إلا ثلث مساءً، وصل عبد الحكيم عامر إلى منزل الرئيس بمنشية البكري، ودلف مباشرة إلى الصالون، وعقب دخوله ألقى أفراد من الحرس الجمهوري القبض على سائقه وطاقم الحرس المصاحب له دون أن يشعر عامر بما حدث
داخل الصالون. فوجيء عامر بوجود الثلاثي زكريا محي الدين، حسين الشافعى، وأنور السادات، لم يذكر له ناصر أي شيء بخصوص حضورهم اللقاء، وبناء عليه تصور عامر أن اللقاء سيكون مقتصرًا عليه هو وعبد الناصر فقط.
أستعاد رباطة جأشه قبل أن يحييهم بود مصطنع، فلم يجاوبه أحد، بل لم يقف أحد لتحيته، وبأسلوب مقتضب للغاية طلب منه عبد الناصر أن يجلس، فداعبهم بسخافة: \”الله. دي محكمة بقى؟\”
لم يستسغ أحد دعابته أيضًا، وقتها شعر عامر بالندم عندما رفض نصائح رفاقه الذين طالبوه برفض حضور ذاك الاجتماع الغامض.
بأسلوب شديد القسوة عنف ناصر رفيق عمره، وحمّله كل مسئولية الهزيمة القاسية والانسحاب المهين، وسرد عبد الناصر وقائع معينة تدين صديقه منذ عام 1956، فرد المشير قائلًا: \”أنا لم أخن. وقدمت رقبتي 100 مرة، ولدي الاستعداد لتقديمها 101 مرة\”، فطالبه ناصر بترك القوات المسلحة، وأن يكتفي بمنصب نائب رئيس الجمهورية، فرفض المشير، وأنتفض قائلًا: \”أنا غلطان أصلًا إني جيت\”، ثم تحرك صوب الباب ليفاجأ برجال الحرس الجمهوري يمنعونه من الخروج، فعاد مرة أخرى إلى عبد الناصر كثور هائج صائحًا: \”أنت هاتعتقلني يا جمال؟\”، فأخبره ناصر بنفس الجدية والهدوء بقرار تحديد إقامته، فانفعل المشير قائلًا له: \”أنت تحدد إقامتي. قطع لسانك\”، تدخل أنور السادات في الحوار، وطالب المشير بعدم إنكار الاتهامات لأنها ثابتة عليه، قائلًا له: \”أنت متآمر\”، وهنا استشاط المشير غضبًا، وصرخ في وجه السادات قائلًا: \”أنا متآمر يا بربري يا رقاص يا ابن الـ***\”.
استمر النقاش بينهم حتى قرب الفجر، حتى ترك عبد الناصر الجلسة وصعد إلى غرفته بالدور الثاني، ربما خشي أن يرق قلبه على رفيق العمر، وتركه بصحبة السادات والشافعي وزكريا محي الدين، فأنهار عامر عندما أيقن الشرك الذي أوقعه ناصر فيه، فساعده السادات للوصول لدورة المياه، ثم سُمع صوت انكسار كوب، وخرج المشير عائدًا لنفس الغرفة بصحبة السادات مبلغًا إياه أنه قد تناول سم السيانور لينتحر، فتم على الفور استدعاء الأطباء، وتبين فيما بعد أنه لم يتناول السم كما ادعى.
قبل بضع ساعات من الآن…
بالتزامن مع وصول عبد الحكيم عامر إلى منشية البكري، كان الفريق محمد فوزي على رأس قوة عسكرية ضخمة، تتحرك لمحاصرة فيلا المشير بالجيزة، لإجبار المعتصمين على الاستسلام، دون المساس بأسرة المشير، وفق تعليمات جمال عبد الناصر نفسه، ومن خلال باب الفيلا المعدني الحصين، لمح الفريق فوزي شمس بدران بالداخل، فطالبه بالاستسلام الفوري مع باقي المعتصمين، فأجابه بدران متعمدًا إهانته قائلًا: \”نط يا فوزي من فوق السور\”، أبتلع فوزي الإهانة، ثم منح المعتصمين مهلة محددة للاستسلام، وفي الثالثة فجرًا انقضت المهلة، فتحركت المدرعات واتخذت وضع إطلاق النار، وعندما أيقن المعتصمون أن الفريق فوزي جاد في تهديده، استسلموا في الحال رافعين الرايات البيضاء، فتم القبض عليهم والتحفظ على الأسلحة التي بحوزتهم، وفي الثالثة والنصف فجرًا، ارتفع صوت الهاتف في الدور الثاني في منزل عبد الناصر، وضع جمال السماعة على أذنه ولم ينطق ببنت شفة، ثم وضع السماعة وقد بدا الارتياح واضحًا على ملامحه. كان ذلك الفريق فوزي يبلغ عبد الناصر بأحكام السيطرة على ثكنة عبد الحكيم عامر العسكرية، عندئذ سمح ناصر للمشير بالعودة إلى منزله بعد جلسة طويلة، استمرت من حوالى التاسعة مساء الجمعة إلى الرابعة من فجر السبت.
استسلم عامر لزكريا محي الدين، وحسين الشافعي شبه مقبوض عليه، واصطحبوه مع شروق الشمس إلى منزله بالجيزة مرة أخرى.
البداية لم تكن صباح هذا اليوم الذي قرر فيه ناصر إعتقال رفيق عمره، بل كانت عصر يوم الخامس من يونيو، بعد ساعات من الهجوم الإسرائيلي على مصر، وتدمير معظم سلاح الطيران المصري، واحتلال شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية والجولان، وفي الأيام الأربعة التالية تابعت إذاعة صوت العرب ومذيعها الألمعي أحمد سعيد بث بيانات عسكرية مكذوبة عن انتصار ساحق لمصر وإسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية، وبحلول صباح التاسع من يونيو كان كل شىء قد انكشف للشعب، وكان لابد من التضحية بأحدهم.
لم يكن عامر بالرجل العادى الذى يمكن أن يقيله عبد الناصر بمجرد قرار، ليس فقط لأنه القائد العام للقوات المسلحة، ونائب رئيس الجمهورية، لكنه كان يسيطر على وزير الحربية، والقوات المسلحة وهي القوة الضاربة الحقيقية في مصر والعالم العربي، ومعها الشرطة العسكرية والمباحث الجنائية العسكرية والبوليس الحربي، ووزير الداخلية، ومدير المخابرات العامة، ومدير السجن الحربى، والمخابرات الحربية، وجميع مرافق الأمن والأسلحة العسكرية، ولجنة تصفية الإقطاع، والاتحادات الرياضية المدنية والعسكرية وقطاع النقل العام، وجميعهم يدينون له بالطاعة والولاء، بينما كان عبد الناصر يسيطر على الإعلام والفنانين والصحافة وأجهزة المخابرات والشرطة والخارجية والاتحاد الاشتراكي، كل تلك الأجهزة تركها ناصر تنسل من بين يديه شيئًا فشيئًا كالدخان، وانعزلت تمامًا حتى أصبحت تدين بالولاء الكامل غير المشروط وغير المنقوص للمشير وحده، خاصة بعدما لم يحاسبه ناصر على الهزيمة المروعة في العدوان الثلاثي على مصر 56، ولم يقيل أيًا من رجاله، ثم تجاهل مسئوليته عن فشل الوحدة مع سوريا، وعندما انتبه ناصر أن المشير أصبح غير قابل للعزل، كان الأوان قد مضى، كان عامر قد صار رئيس دولة داخل الدولة، وكان يمكنه بكل بساطة الانقلاب على ناصر وإزاحته وقتما وكيفما شاء.
بعد صدور قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، وكجزء من خطة ناصر للإطاحة بالمشير، أتفق ناصر مع عامر أن يرحل الثنائي كإجراء صوري، على أن يتولى شمس بدران وزير الحربية -وقتئذ- منصب رئيس الجمهورية بشكل مؤقت، حتى يتناسى الشعب مرارة الهزيمة الساحقة، ولم يساور عامر أدنى شك في صدق نوايا عبد الناصر، خاصة أن بدران أحد رجال المشير المخلصين، وقدم المشير استقالته حسب الإتفاق، وأنتظر حكيم ورجاله بيان التنحي.
بعد ظهر التاسع من يونيو، أعلن التليفزيون المصري عن خطاب مرتقب للرئيس عبد الناصر، ومع دقات الساعة الرابعة عصرًا، كان عبد الناصر يقف بقامته الفارهة أمام كاميرات التلفاز، بعيون حاول جاهدًا أن يجعلها تبدو حزينة ومنكسرة، وبدأ يقرأ خطابه المعد مسبقًا بصوت متهدج، محاولًا تبرير فشله هو ونظامه، والتنصل من مسئولية الهزيمة الساحقة التى مُنيت بها البلاد، وإلقاء التهمة والمسئولية على الاستعمار والمؤامرات الخارجية كعادته، ومع اقتراب نهاية البيان ألقى بالمفاجأة وأعلن تنحيه عن الحكم، على أن يتولى زكريا محي الدين منصب الرئيس، ولم يعلن خبر استقالة المشير، وعندما سمع عبد الحكيم عامر اسم زكريا محي الدين بدلًا من شمس بدران، أستشعر الخيانة.
كان أداء عبد الناصر أحترافيًا فى إلقائه للبيان، فقد استطاع بنبرات صوته الحزين وتهدجه إلى حد بدا كما لو أنه يُعاني لكي ينطق الكلمات، أن يجتذب تعاطف المصريين ويستثير مشاعر التوحد معه، وساعدته كلمات البيان القوية العبقرية المنتقاة بعناية التي أعدها هيكل، والتى أظهرت استحالة تجاوز البلاد للأزمة دون استمرار عبد الناصر في موقعه رئيسًا، وكأنما قدم عبد الناصر عرض التنحي بيد وسحبه باليد الأخرى! ففي الوقت الذي كان عبد الناصر يدعو فيه الشعب لقبول تنحيه، كان يلوِّح بالخسارة الهائلة التي ستلحق بالشعب لو قبِل دعوته.
في نفس الوقت، كان علي صبري رئيس المخابرات السابق، ورئيس الوزراء السابق، والأمين العام الحالي للاتحاد الاشتراكى العربى، والمسئول الأول عن التعبئة والحشد الجماهيري، يعد العدة ويجهز عربات النقل الضخمة المحملة بالآلاف من شباب الاتحاد الاشتراكي، ويوزعهم على الميادين الرئيسية بالتزامن في جميع محافظات الجمهورية، محملين بلافتات قماشية ترفض تنحي الزعيم.
فور انتهاء البيان أنطلقت حشود الاتحاد الاشتراكي المدفوعة عمدًا، رافعة لافتات مكتوب عليها: \”لا تتنحى\”، وبعد دقائق قليلة من انتهاء البيان، كانت أعداد المتظاهرين قد بلغت الحد الحرج، ومن لم يصب بعدوى التظاهر، أجبرته قوات الجيش التي طافت بالمقاهي الشعبية على التظاهر بالقوة، بالتزامن مع الخطابات الحماسية التي أطلقها إعلام النظام في الراديو والتي تُرهب الشعب من عواقب تصميم ناصر على قراره، وتطالبه بالبقاء على الطريقة المصرية، فكلما يزداد فشل الزعيم والقائد، يزداد الشغف حوله باعتباره الوحيد القادر على تصحيح الكوارث التي تسبب هو نفسه فيها! مع بعض الأغانى الحماسية في خلفية المشهد تتوعد العدو، وتخلق حالة من الهياج الشعبي.
وتوجهت الجماهير المصابة بحالة هياج عارم إلى بيت عبد الناصر في منشية البكرى لحثه وإجباره على استكمال مسيرة التقدم، وهي تهتف: \”نحن اخترناك يا جمال يا حبيب الملايين\”، \”لا تتنحى\”.
واستمرت المظاهرات ليومين متتاليين دون توقف، حتى خرج عبد الناصر مرة أخرى معلنًا تراجعه عن قراره السابق نزولًا على رغبة وإرادة الشعب المصرى، حتى كتبت التايمز تقول: \”عجبا لهؤلاء العرب. يستقبلون زعماءهم المهزومين بأكاليل الغار\”.
هنا فقط تأكد شعور عامر أن ناصر قد خدعه، وأن الأمر ليس مجرد استقالة، وإنما هو عزل سياسي متعمد لتحميله هو ومجموعته المسئولية كاملة لاحقًا، وقبل أن يفيق عامر من صدمته، كان الراديو يعلن نبأ ترقية عدوه اللدود رئيس الأركان الفريق محمد فوزى حاخوا إلى منصب القائد العام للقوات المسلحة، وإحالة شمس بدران وزير الحربية، حمزة البسيونى مدير السجون الحربية، وصلاح نصر مدير المخابرات العامة، وباقي رجال عامر. إلى المعاش.
كاد عامر أن يصاب بالجنون، فلم يعتد أن يجد نفسه -وهو رفيق ناصر وساعده الأيمن، والرجل الثاني في الدولة- في الجانب الأضعف من المعادلة، عندئذ أدرك المشير الذي لم يعد مشيرًا، أنه ربما حان الوقت للابتعاد عن أرض المعركة ولو قليلًا، فقرر السفر إلى قريته الصغيرة \”أسطال\” في سمالوط محافظة المنيا بصعيد مصر، ومن هناك نقلت \”بعض الحيطان اللي ليها ودان\” إلى عبد الناصر بعضًا من الكلمات التي تسربت على لسان حكيم يهدده فيها، فاستشعر ناصر بالخطر، وحاول أن يجبر عامر على العودة للقاهرة لإحكام السيطرة عليه، فأرسل عباس رضوان بعرض لا يرفض، أن يقبل منصب نائب الرئيس ونائب القائد الأعلى لكن بدون اختصاصات، فرفض المشير أن يعود معه على الطائرة الخاصة التي أرسلها عبدالناصر إلى أسطال، ثم أرسل إليه بعد ذلك صلاح نصر بنفس العرض، لكنه رفض أيضًا.
وأخيرا أرسل ناصر تابعه المفضل حسنين هيكل إلى المشير ومعه عرض جديد مشفوع بدفء الصداقة والعلاقات الأسرية، وأن عبد الناصر على استعداد لقبول شروط عامر، فبدت هذه الفكرة طيبة في نظر عامر، فعاد مع هيكل يراوده أمل وقف مذبحة الضباط وإبراء الجيش من كل ما نسب إليه بسبب الهزيمة، لكن عبد الناصر لم يفي بوعده، فقرر عامر أن يحمي نفسه بنفسه، واستجلب عددا من الرجال الأقوياء من بلدته أسطال ودججهم بالسلاح، حتى تحولت فيلته إلى ثكنة عسكرية تستعصي على الاقتحام، ثم توافد عليه رجاله المطلوب القبض عليهم ليتحصنوا معه في فيلته، فأرسل له عبد الناصر أنور السادات برسالة مؤداها أن يقبل بمنصب نائب رئيس الجمهورية، ويتخلى تمامًا عن أى علاقة بالجيش، فرفض عامر قائلًا: \”أنا ماقبلش أكون مجرد تشريفاتى يستقبل سيادته فى المطار. روح قوله إنى راجع الجيش يعنى راجع\”، فأدرك ناصر أن الضرورة أصبحت مُلحة للتخلص من المشير، خشية أن ينقسم الجيش إلى معسكرين، فعهد ناصر إلى الفريق محمد فوزي بإعادة السيطرة على الجيش قبل أي محاولة انقلاب قد يقوم بها القادة المستبعدون.
وفي الوقت ذاته عهد بمهمة السيطرة على المشير نفسه إلى الثلاثي الموثوق فيهم، أمين هويدي وزير الحربية الجديد، وشعراوي جمعة وزير الداخلية، وسامي شرف سكرتيره للمعلومات، الذين كانوا يلتقون في نادي الشمس، ليلًا بعيدًا عن أعين المشير المنتشرة في كل مكان، للتخطيط لكيفية الخلاص منه بأقل الخسائر الممكنة، حتى تفتق عقل الثلاثي إلى خطة للقبض على المشير أطلقوا عليها الاسم الكودي \”خطة جونسون\”، وتقضي باعتقال المشير في شارع صلاح سالم أثناء عودته مساءً من مصر الجديدة إلى منزله، لكنهم تراجعوا عن تنفيذها خشية أن يحدث تبادل لإطلاق النار بين الفريقين، ومن ثم رجحوا الخطة البديلة، وهي استدراج عامر إلى منزل عبد الناصر بحجة نية -هذا الأخير- في تصفية الخلافات، وفي نفس الوقت تتحرك قوات أمنية لتطويق منزله بالجيزة، وإحكام السيطرة عليه.
وتحدد مساء الجمعة 25 أغسطس لتنفيذ الخطة، وصباح اليوم المحدد هاتفه عبد الناصر بأسلوب ودي مصطنع، وأوهمه أن المياه عادت لمجاريها، حتى إنه أوهمه أنه سيصطحبه في مؤتمر الخرطوم المرتقب، فأنشرح صدر عامر بعد الهاتف، ومن ثم عدل عن خطة الانقلاب المنتظرة، وحاول رجاله إثناءه عن هذا اللقاء المرتقب، لخشيتهم أنه قد يكون فخا للإيقاع به، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، فبريق العودة مرة أخرى للسلطة لا يماثله أي بريق آخر.
ذهب عامر إلى جلسة الحسم في منشية البكري في التاسعة من مساء الجمعة، وعاد إلى فيلته في الجيزة قرب فجر السبت، ليجدها خالية تماما إلا من أفراد أسرته، بدون سلاح وبدون الرفاق، فأدرك عامر أن الوقت قد حان ليشرب من نفس الكأس التي أذاقها سويًا لمحمد نجيب، وتأكد أنه قد أستبقي ليقتل قريبًا.
استمر عامر يلح فى طلب محاكمة عادلة للجميع، إما المحاكمة العلنية أو عودته إلى الجيش، وقبل موته بأسبوع كتب عامر وصيته على عجل، والتي حصلت عليها بطريقة ما ونشرتها لاحقًا مجلة Life الأمريكية، يقول فيها:
\”وإذا كانت هذه الوصية قد كتبت على عجل، فذلك لأنني أخشى ما هو مدبر لي، فقد فقدت الثقة في صديقي وأخي جمال، ولما أعد أحس بالأمن من جانبه، وما التهديدات التي أتلقاها إلا لأنني طلبت إجراء محاكمة علنية، وقبل ساعتين زارني ضابط مخابرات ما كنت أهتم بالنظر إليه عندما كنت في مجدي، وقد هدد بأن يسكتني إلى الأبد إن جرؤت على الكلام، وعندما قلت إنني أريد الاتصال بالرئيس، قال: إذا ظننت أن صداقتك بالرئيس ستحميك، فأنت واهم.
وحاولت الاتصال بالرئيس بالتليفون على مدى ثلاثة أيام فقيل لي إنه مشغول، إنني واثق من أن هناك مؤامرة تدبر ضدي\”
أبلغ بعضهم عبد الناصر أن وجود عامر رهن الإقامة الجبرية ليس كافيًا، ولم يمنعه من الاتصال ببعض الضباط عن طريق أبنائه، فقرر عبد الناصر نقله لمكان أكثر أمانا.
وبعد أيام قليلة وفي ظُهر الأربعاء الثالث عشر من سبتمبر، اقتحمت قوة عسكرية بقيادة الفريق فوزي والفريق عبد المنعم رياض بيت المشير، وألقوا القبض عليه بمنتهى العنف والقسوة، أسقطوه أرضًا وسحبوه من بيجامته وأوقعوه على السلم، لينقلوه بعد ذلك إلى فيلا تابعة للمخابرات المصرية بالمريوطية.
وفي شهادة الفريق فوزي أقر أنه في لحظة القبض عليه \”تناول المشير شيئًا ما ووضعه في فمه وأخذ يلوكه، مما لفت أنظار عائلته وبالذات ابنته نجيبة التي كانت واقفة بجواره مشيرة إلى أن أباها تناول سمًا\”
لكن جمال عبد الحكيم عامر نفى تلك الواقعة تمامًا، وأقر أن أخته نجيبة لم تكن متواجدة أصلًا لحظة القبض على والدها.
تحركت السيارة رأسًا إلى مستشفى المعادي وأجروا للمشير غسيل معدة، وأجمع أطباء مستشفى المعادي أن المشير كان في حالة طبيعية، وأيدتهم في ذلك التقارير المعملية، وقال التقرير الطبي إن العينة جاءت خالية من الأفيون أو المورفين، مثلما أقر الطبيب \”علي محمود دياب\” خبير السموم بالمركز القومي للبحوث، وبالرغم من أن المفترض أن يظل المشير في المستشفى لمدة لا تقل عن 24 ساعة لمتابعة حالته المرضية، إلا ان الفريق فوزي أصر على نقله للاستراحة قبل الخامسة مساءً بدون سبب مفهوم.
في الفيلا رافقه رائد طبيب إبراهيم بطاطا، رائد طبيب مصطفى بيومي، الممرض أحمد مصطفى لطفي، والخادم منصور أحمد علي، وصباح اليوم التالي طلب المشير كتبه وأدويته، حتى إنه قد طلب علاجا لأسنانه، وفي السادسة مساءً تناول المشير كأسا من عصير الجوافة المحفوظة، ثم شعر برغبة في قضاء حاجته، ثم أنهار جهازه التنفسي دفعة واحدة، ولفظ نفسه الأخيرة في السادسة والخمس والثلاثين دقيقة، وفي العاشرة وعشرة دقائق ليلًا، وبعد قرابة الأربع ساعات، أتصل شعراوى جمعة وزير الداخلية بوزير العدل عصام حسونة لينفث فى أذنه: \”أنا شعراوي جمعة يا أخ عصام. صاحبك المشير اتوكل. هابعتلك سيارة خاصة مع ضباط أمن عشان يكونوا تحت تصرفك وتحت تصرف النيابة العامة\”
ووصلت السيارة بالفعل، لكن قرب الواحدة فجرًا، أي بعد نحو سبع ساعات من حدوث الوفاة، ولم يعثر على الكأس التي تناول بها عصير الجوافة، واختفى الخادم والممرض، ودفن جثمان المشير في قريته في أسطال بحضور محافظ الإقليم وبعض رجال المباحث، ووضعت حراسة على جثمانه لمدة ثلاثة شهور كاملة.
أما تقرير الحادث المزمع نشره في جريدة الأهرام، فقد أمر ناصر بعرضه على هيكل أولًا، وحذف منه نحو 55 سطرًا، أهمها السطر الذي يذكر أن الممرض والخادم كانا من رئاسة الجمهورية.
وبعد الوفاة قال التقرير الرسمي النهائي الذي وقعه النائب العام محمد عبد السلام إنه: \”مما تقدم يكون الثابت أن المشير عبد الحكيم عامر قد تناول بنفسه، عن نية وإرادة، مادة سامة بقصد الانتحار، وهو في منزله يوم الثالث عشر من سبتمبر عام سبعة وستين، قضى بسببها نحبه في اليوم التالي، وهو ما لا جريمة فيه قانونًا، لذلك نأمر بقيد الأوراق بدفتر الشكاوى وحفظها إداريًا\”
——————–
المصادر:
– برنامج سري للغاية – مقتل الرجل الثاني ج1، ج2 ، قناة الجزيرة – يسري فودة.
– برنامج بوضوح – حلقة الأحد 25-9-2016- حقيقة مقتل عبد الحكيم عامر ج1، ج2 ، قناة الحياة – عمرو الليثي.