بيشوي القمص يكتب: لاهوت المازوخية!

في 11 ديسمبر عام 2016 انفجرت عبوة ناسفة في قلب الكنيسة البطرسية الملاصقة للكاتدرائية المرقسية أثناء صلاة قداس الأحد، واستشهد على إثرها 28 مسيحيًا أغلبهم من النساء والأطفال، وأصيب نحو 31 آخرين، قبل أن يعلن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مسؤوليته عن التفجير، وقبل أن يفيق الأقباط من صدمتهم.

وفي 23 فبراير 2017 لقي قبطي مصرعه في مدينة العريش برصاص العناصر التكفيرية أمام زوجته وأولاده في منطقة حي الزهور، وهو السادس خلال أسبوعين فقط بعد مقتل خمسة أقباط سابقين بينهم طبيب ومدرس وتاجر ومسن ونجله الذي وُجد جثمانه محروقًا.

بسبب هذه الحوادث اضطر نحو 1000 قبطي للهجرة القسرية من منازلهم بالعريش ونزحوا إلى مناطق أكثر أمانًا.

وقبل أن يجف دم شهداء العريش الستة، وفي 9 أبريل وأثناء قداس أحد الشعانين، انفجرت قنبلة في كنيسة مارجرجس بطنطا، أسفرت عن استشهاد 27 شخصا على الأقل، أغلبهم من المسيحيين إضافة إلى بعض من أفراد حراسة الكنيسة، وإصابة أكثر من 70 آخرين.

وبعد ساعات قليلة، وبعد دقائق من نهاية القداس الذي كان يترأسه البابا تواضروس بالكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية، انفجرت قنبلة أخرى أدت إلى استشهاد 17 شخصا وإصابة 41 آخرين.

وقبل أن يتجاوز الأقباط الصدمة وفي 6 مايو لقي نبيل صابر أحد أقباط العريش المُهجرين مصرعه برصاص مسلحين، عندما عاد إلى العريش قبل أيام لإنهاء بعض الإجراءات الخاصة بامتحانات نجله.

ولم تمر أيام حتى اعتدى ملثمون على حافلة تقل رحلة أطفال إلى دير الأنبا صموئيل بالمنيا وأمطروهم بالنيران، ليحصدوا أرواح 28 شهيدا، ونحو 25 جريحا.

بعد حادثة المنيا الأخيرة -وكالعادة- تصاعدت نغمة المازوخية المسيحية المعتادة، التي تدعمها وتشجعها وتروج لها الكنيسة وقادتها، لإسكات أي نغمة تمرد محتمل من جانب الأقباط، فكتب القس ماركوس صموائيل على صفحته على فيسبوك يقول:

\”حدث بالفعل أمامى، أم تخاطب بنتها ذات السبع سنوات. خللي بالك يا حبيبتى لو حد قالك قولى الشهادة، دى معناها إنك هتسيبي بابا يسوع. فتقولي له: أنا مسيحية وباحب بابا يسوع وهتحسي بخبطة خفيفة كده وهتلاقي نفسك فى السما مع بابا يسوع\”

بينما انتشر بوست آخر منسوب للقس داود لمعي كاهن كنيسة مارمرقس مصر الجديدة يؤكد فيه أن \”المهاجرين كلهم بيفكروا جديا يرجعوا مصر لئلا يفوتهم النصيب الصالح. الاستشهاد.في عصر الاستشهاد\”

قبل أن يحذف كلماته لاحقا بعد الهجوم والاستنكار الذي ناله.

بينما انتشر فيديو منسوب لسيدة مسيحية ناجية من الحادث، بعدما فقدت أبناءها وزوجها وأقاربها، تلك السيدة استفاضت في الشكر والثناء على الإرهابيين لأنهم \”سفروا أسرتها للسماء وبتتمنى لهم النور والبركة والهداية\”، ليرد عليها المذيع قائلًا: \”لو سمع الإرهابيون كلامك ممكن يتحرقوا\”

الوحيد الذي قال كلمة حق، كان نيافة الأنبا رافائيل سكرتير المجمع المقدس، الذي فاجأ الجميع بكلماته الشجاعة قائلًا:

\”يا مسيحيّين كفاياكم! إحنا مش مولودين عشان نموت أو نُستَشهد، إحنا مولودين عشان نعيش للمسيح ونشهَدله، مفيش حاجه اسمها مبروك عليهم، كفاياكم تقليل وتشويه للمشاعر والحزن والألم، لو جرَّبتوا تشوفوا أشلاء ولادكم مش هتقبلوا مُباركة من حَد، تعزية الله ليكوا في الألم مسيحيَّة، لكن استمتاعكوا بالألم مازوخيَّة، وتمنِّياتكوا بكلمة عقبالكوا ساديَّة، كفاياكم تصديق لنبوَّات كاذبة عن مصر، من سنين ولحد دلوقتي! سيبوا الدموع تنزل وتغرَّق وشوشكم قُدَّام الله، روحوا قولوله لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟ روحوا قولوله انظُر إلى تهديداتهم، لو جُوَّاك غفران حقيقي للقتَلَة، آمين، لو مش جوَّاك، متتكسفش تشتكي لله منهم، متحبسوش دموعكوا، متكتموش حزنكوا، متكبتوش كلماتكوا، متخفوش إحباطكوا، متمنعوش شكواكوا، متكابروش في ضعفكوا!\”

أثارت كلماته القوية تعجب وإعجاب الكثيرين كونها تخرج من سكرتير المجمع المقدس وأحد المقربين من البابا تواضروس الموالي للنظام على طول الخط، لكنه كان عند حسن ظننا به ونفى ما نُسب إليه من كلمات، وكتب يقول:

\”ينشر البعض أقولًا منسوبة لشخصي، لا أعرف عنها شيئًا، ما أقوله ومسجل بصوتي، وما أكتبه على الأكونت الخاص بي على الفيس والتويتر، هو فقط ما أكون مسئولًا عنه\”

دأب المسيحيون على ممارسة مازوخيتهم المعزية، وترديد هلاوسهم الدينية الجميلة التي تبرر الدم المسفوك بحجج تافهة فارغة، وآيات من الإنجيل أقتُطعت من سياقها، وتم تفسيرها بطرق ملتوية لتمنعهم من الانتفاضة والمطالبة بحقوقهم المسلوبة، وأدمنوا الانهزامية والاستكانة والضعف بحجة أنهم ليسوا \”من أبناء هذا العالم\”، و\”لهم وطن تاني\”، و\”في العالم سيكون لكم ضيق\”، كما يردد الكهنة وقادة الكنيسة لتسكين آلامهم وأوجاعهم، ليصيبوا المتابع للحركة القبطية بالغثيان من مدحهم وتغزلهم في ذاك الإرهابي الذي قتل عائلاتهم بدم بارد.

أعتاد المسيحيون على تبجيل وتعظيم وتفخيم مشاهد الأمهات الفرحات لاستشهاد أبنائهن، وأعتبارهن مثلًا أعلى يُحتذى به في التسامح؟

بالرغم أن الحزن على فراق الأحباء طبيعة بشرية، يصرون بكل صفاقة على تغييرها لتتناسب مع المازوخية المسيحية التي يدعون إليها، ناسيين أو متناسيين أن المسيح نفسه قد \”انْزَعَج بِالرُّوح وَاضْطَرَبَ\” ثم \”بَكَى يَسُوع\” لموت\”لعازر\” أحد أحبائه.

للأسف، تراث المازوخية في المسيحية القبطية راسخ منذ قرون، فيحكي لنا التراث المسيحي عن قصة مقتل فلاحين إسنا الثلاثة في عهد الوالي إريانوس والي إنصنا (298-303م) الذي أمر بقتل المسيحيين في مذبحة إسنا الرابعة، وبينما كان الفلاحون الثلاثة عائدين من حقولهم يحملون فؤوسهم على أعناقهم، التقوا بجند الوالي فصاحوا: \”نحن مسيحيون مؤمنون بالسيد المسيح\”، فأجابوهم: \”قد أرجعنا سيوفنا إلى أغمادها إذ تلمت من كثرة القتل\”، فقالوا للوالي: \”اقتلنا بفؤوسنا!\”، فأمر الوالي جنده أن يقتلوهم بفؤوسهم، فمدوا أعناقهم على حجر كبير كان في ذلك الموضع، وقطع الجند رؤوسهم بالفؤوس.

لم يدرك المسيحيون بعد أن تلك القصة وأمثلتها التي تُحكى أسبوعيا في فصول مدارس الأحد، ترسخ وتنمي شعور الدونية والانبطاح لدى الأطفال المسيحيين، وتُغيب الوعي وتُخدر المشاعر، لتخلق جيلًا يتمنى الموت، لا يختلف كثيرًا عن أطفال داعش في تمني الموت، الفارق بينهم أن كلًا منهم يتمنى الموت بطريقته، لكن النهاية واحدة.. هذا ليس إيمانا أو تقوى، هذا انتحار جماعي مع سبق الإصرار.

المشكلة الأكبر في هذا التراث أنه يمجد ويجمل الموت، ويشجع ضمنيًا جموع المسيحيين الأقباط على الرغبة في الموت والاستهانة بالحياة، ويرسخ لفكرة أن الموت أفضل من الحياة. لذا، لم يكن مستغربًا على المسيحيين قبول جلسات الصلح العرفي في كل أحداث الاضطهاد التي حاقت وتحيق وستحيق بهم، انطلاقًا من مبدأ \”من ضربك على خدك الأيمن، حول له الآخر أيضًا\”، وتشجيع موقف دور الضحية الذي يعشق المسيحيين لعبه طوال الوقت، متناسين أن \”الشجاعة ليست فى مواجهة الموت، إنما الشجاعة فى مواجهة الحياة\”

يقف المشاهد عاجزا عن تصديق هذا المسيحي في ادعائه بحب ذاك الإرهابي الذي اختطف أطفاله وأقرباءه بلا رحمة، بينما لا يستطيع نفس المسيحي أن يسامح أخاه إن أخطأ في حقه!

كيف نصدق أنه يسامح الإرهابي، بينما لا يستطيع أن يسامح ذلك السائق الذي تعداه بسيارته؟

كيف نصدق أن هذا المسيحي يشتهي الشهادة ولا يخاف الموت، بينما يخاف وترتعد مفاصله في مواجهة الظلم، ولا يستطيع أن يطالب بحقه، ويفضل الخنوع والاستكانة طوال الوقت؟

كيف نصدق تمثيله الفاشل بتمني الشهادة، بينما نراه في معظم الأوقات يكذب ويشتم ويدين الآخرين وينافق ولا يقبل الآخر؟

كيف نصدق تنظير هذا المسيحي ومزايدته بتمني الشهادة، بينما هو نفس المسيحي الذي وقف مهللًا منذ أربع سنوات لقتل الإخوان في مذبحتي رابعة والنهضة؟ ألم يأمره الكتاب المقدس بمحبة أعدائه؟!

كيف يمكن أن نصدق اشتهاء هذا المسيحي للشهادة، بينما نراه يهلل لقادة كنيسته في نفاقهم المريض اللزج للسلطة، بداية من مبارك مرورًا بمحمد مرسي الإخواني، وانتهاء بالسيسي؟ هل النفاق من تعاليم الكتاب المقدس؟

كيف أصدق استعداد هذا المسيحي للشهادة، بينما لم نسمع منه سوى الصمت خلال السنوات الأخيرة، بينما السجون والمعتقلات مكتظة بالمظلومين؟

ولم يكتف حتى بإنه لم يحرك ساكنًا، بل هلل للظلم، وشجع الطغيان، وأيد الاستبداد، وانتشى فرحًا للتعسف والتعذيب! ألم يقرأ في الكتاب المقدس أن \”مُبَرِّئ ٱلْمُذْنِب وَمُذَنِّب ٱلْبَرِيء كِلَاهُمَا مَكْرَهَةُ ٱلرَّبِّ\”؟!

للأسف، مواقف المسيحيين الأخيرة وتاريخهم المعاصر، يؤكد أنهم لم يرفعوا يومًا راية التسامح ولا المحبة، فكيف نصدق الآن أنهم على استعداد للغفران لأعدائهم؟!

كفاهم تمثيلًا. فمسرحيتهم السخيفة قد صارت بلزوجة البحر الميت.

يهلل المسيحيون طلبًا للشهادة دون أن يفسروا للمشككين -أمثالنا- هذا التناقض بين \”عذوبة الاستشهاد والموت\” وبين الحصون التي بُنيت في بعض الأديرة المسيحية، مثل الدير المحرق ودير الأنبا مقار، ليحتمي بها الرهبان من هجمات البربر والرومان خوفًا على أرواحهم!

إن كان الاستشهاد والموت من أساسيات المسيحية، فلماذا هرب البابا أثناسيوس الرسولي الملقب بحامي الإيمان من بطش الاريوسين لمدة 6 سنوات كاملة؟ ولماذا هرب البابا بنيامين الأول من بطش البطريرك الملكاني سايروس؟ ألم يكونوا مشتاقين للشهادة؟!

للأسف، لم يدرك المسيحيون المتسامحون بعد، أن تعاليم المسيح عن الخد الآخر والغفران والمحبة والتسامح وقبول الآخرين، التي يرددونها طوال الوقت، لا تنطبق على الظروف الحالية.. لم يدركوا أن هذا صراع سياسي في شكل ديني، تم توريط المسيحيين فيه -للأسف- بناء على هويتهم الدينية كمسيحيين لا كمصريين -لا سامح الله من كان السبب– كمؤيدين لإحدى أطراف الصراع، لذا هم يدفعون الثمن الآن.

لم يدركوا أن التسامح هو موقف فردي، أما التصالح الجماعي الذي يدعون له بمازوخيتهم اللزجة، هو جريمة في حق باقي المسيحيين، وانتهاك للقانون ومنظومة العدالة.. هم فقط يمكنهم أن يفرطوا في حقوقهم الشخصية بكل أريحية، لكن تخاذلهم وتفريطهم في حقوق المسيحيين الجماعية وأمنهم وحريتهم وحقهم في حياة كريمة وقصاص عادل، هي جريمة لا تقل عن جريمة قتلهم على الهوية الدينية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top