بيشوي القمص يكتب: لاهوت التخدير

\”عايز أقول كلمتين، أنا وأنا هناك النهارده والمسئولين في الأمن قالولي قول كلمة للي عاملين مظاهرات، فأنا بقول للشعب المسيحي، إحنا مش بتوع مظاهرات، إحنا عندنا أمر بيقول اخضعوا للرئاسات والسلاطين، يعني سمعت النهارده أولادنا بيقولوا إيه؟ يا نموت زيهم يا نجيب حقهم، مستوردين الكلام ده منين؟ من بره\”. \”إحنا مبنستعملش كلام مستورد، هانجيب حقهم إزاي؟ بدراعنا؟ ربنا مقالش كده، بقلة الأدب؟ ربنا مقالش كده، بالخناق؟ ربنا مقالش كده، مين اللي هيجيب لنا حقنا؟ هو وحده بس، يبقى نرفع إيدينا ونصلي. إحنا عندنا أمر إن إحنا نخضع، مش عن جبانة، ولا عن خوف لكن تنفيذا لوصية رب المجد يسوع. اخضعوا للرئاسات والسلاطين، ولينا محامي قدير هو اللي يجيب لنا حقنا. آمين؟\” من عظة الأب مكاري يونان بالكاتدرائية القديمة بكلوت بك 11 ديسمبر 2016
اجتزأ الأب مكاري الآيات من سياقها على طريقة \”لا تقربوا الصلاة\”، ملخصًا بكلماته طريقة تفكير الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي تنتهجها منذ قرون، فعلى مدى عقود طويلة، استطاعت الكنيسة لي عنق الآيات الكتابية وتقديم صورة مغايرة للمسيحية تمامًا، تعتمد على التخدير والانبطاح بما يمكن أن ندعوه بـ \”لاهوت التخدير\”، لاهوت يتماهى بشكل متطابق مع رؤية دولة يوليو لإدارة الأقلية المسيحية في مصر، لاهوت يعتمد بالأساس على الطاعة المطلقة والعمياء للحكام بحسب هوى الكنيسة، مع أن نفس الأب لم يطالب المسيحين بالخضوع للحاكم إبان فترة حكم مرسي والإخوان، بل تبنى خطابًا مغايرًا في ذلك الوقت، لأن المزاج العام للشعب ولدولة يوليو العميقة وقتها كان بالطبع ضد الحاكم.

بداية من انقلاب يوليو 1952، ومع تتابع أنظمة الحكم المتعاقبة وصولًا إلى الآن، تتعامل الدولة المصرية مع الأقباط بمنهج واحد لا يتغير، هو اعتبارهم أقلية طائفية متماسكة، يمكن ترويضها والتعامل معها بسهولة من خلال وسيط ذي قدرة غير محدودة على تدجينهم والسيطرة عليهم، هي الكنيسة المصرية ويمثلها البابا أو البطريرك إضافة إلى أذرعه المتمثلة في الأساقفة والكهنة، ولذا حرص رؤساء الدولة المصرية عبر أكثر من ستة عقود متتالية، بداية من عبد الناصر وانتهاءً بالسيسي (باستثناء السادات فى العام الأخير من حكمه، ومحمد مرسي في النصف الثاني من العام الوحيد لحكمه) على التمتع بعلاقات طيبة مع رأس الكنيسة لا مع المسيحيين، وكما هو متوقع فإن علاقة البابا الطيبة والوثيقة بمؤسسة الحكم لم تنعكس أبدا بالإيجاب على ترسيخ المواطنة والمساواة، وبالتالي لم تنعكس أبدًا بالإيجاب على أحوال المسيحيين فى العموم، بل على النقيض تمامًا فمنحنى المواطنة الذي يتناسب طرديًا مع الأحوال العامة للمسيحيين، تناسب عكسيًا مع علاقة الكنيسة والبابا بالدولة ومؤسسة الرئاسة، والتي ازدادت عمقًا في الثلاثة أعوام الماضية بشكل ملحوظ، فكلما ازدادت العلاقة بين مؤسسة الرئاسة والبابا عمقًا، تفاقم قهر المسيحيين وإجبارهم على التغاضي عن حقوقهم، وبمرور السنين تحولت الكنيسة من كيان روحى إلى مؤسسة سياسية تلعب أدوارا سلطوية لتأميم الوعى العام للمسيحيين بامتياز، وفي المقابل تحققت رغبات البابا والأساقفة، لا رغبات عموم الأقباط، وبالتالي تعمقت أزمات الاقباط في المساواة والمواطنة بشكل أكبر.

في حواره مع جريدة الأهرام أحد أهم الصحف الرسمية في مصر، بتاريخ السبت 4 يناير 2017، أكد البابا تواضروس بأنه يرفض مصطلح \”إضطهاد الأقباط\” معترضًا على اللفظ، وأقر أن \”كلمة اضطهاد كانت تعلن في أيام الدولة الرومانية أيام دقلديانوس\”، و\”كلمة اضطهاد خارج النطاق\”، وما يحدث للأقباط هو \”معاناة توجد على الأرض\” طبقًا لوصية المسيح \”في العالم سيكون لكم ضيق\”، مؤكدًا أن \”هذه وصية ونحن نتبع الوصية، ولا نستطيع أن نسأل عن الوصية إلى متى؟\”، مؤكدًا أن \”مصر لم تعرف عنفا، مصر التي تشرب من مياه النيل لا تعرف عنفا أبدًا\”، ربما حري بقداسته أن يقرأ ليعرف تاريخ العنف الطائفي في مصر!

كما رفض البابا تواضروس الرأي القائل إن الأقباط يدفعون ثمن مشاركتهم القوية في ثورة 30 يونيو، ربما حري بقداسته أن يراجع قائمة خسائر الأقباط في الممتلكات والأرواح ليعرف حقًا ثمن مشاركة الأقباط في مظاهرات 30 يونيو.

وعندما أحرجه المحاور الصحفي متسائلًا: \”هناك من يرى أنك محسوب على النظام أكثر من دفاعك عن قضايا الأقباط؟\”، أجاب البابا: \”أنا مصري أدافع عن مصر بلدنا، هذا هو المبدأ العام وما يقوله البعض بهذه الصورة ليس صحيحا، لكن البعض لا يتمنى أن توجد حالة من السلام والتناغم بين كل أطراف الدولة\”، مرسخًا لمبدأ خداع استخدمه كل الحكام السلطويين على مر التاريخ، يدمج بين النظام وبين الوطن، فمن يعادي النظام فهو يعادي الوطن ومن يدعم النظام فهو يدعم الوطن، وعندما سأله المحاور عن موقفه بشأن عدم حمل الصليب في لقائه مع ملك السعودية، أكد البابا استشعاره للحرج بشأن حمل الصليب أثناء لقائه مع الملك قائلًا: \”عندما أكون في مجتمع والتقي أناسا لا أعرفهم لا أصافحهم والصليب في يدي، فربما يجد غير المسيحيين حرجا في ذلك ولذلك أنا وضعت الصليب في جيبي، وأنا مع ملك السعودية، وهذا أفعله في لقاءات كثيرة\”

موالاة بطريرك الأقباط للحكام لم تبدأ من انقلاب 1952، بل بدأت بعد الغزو العربي لمصر عام 641 م بثلاث سنوات، فبعدما آلت السلطة لجيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص واستتبت الأمور، علم عمرو بن العاص باختفاء البابا بنيامين بطريرك الأقباط هاربًا من اضطهاد المقوقس قيرس البطريرك الملكاني، فكتب عمرو بن العاص كتاب أمان للبابا بنيامين يقول فيه \”الموضع الذي يمر فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله فليحضر أمنًا مطمئنًا ويدير حال بيعته وسياسة طائفته\”، وعندما بلغ العهد البابا بنيامين في مخبئه، عاد إلى الإسكندرية وفرح الناس برجوعه فرحًا عظيمًا بعد أن ظل مختبئًا ثلاثة عشر عامًا، منها عشر أعوام قبل الغزو العربي، وثلاثة أعوام في حكم المسلمين، فذهب إلى عمرو بن العاص والتقى به، فقال له عمرو: \”جميع بيعك ورجالك اضبطهم ودبر أحوالهم، وإذا أنت صليت علي حتى أمضي إلى الغرب والخمس مدن وأملكها مثل مصر وأعود إليك سالمًا بسرعة، فعلت لك ما تطلب مني\”، فدعا البابا بنيامين له وقال له كلامًا طيبًا أعجبه هو والحاضرين معه ثم انصرف من عنده مكرمًا مبجلًا، وبالرغم من ذلك فعل العرب بأهل مصر مثلما فعل الروم والبيزنطيون، واضطهدوا الأقباط واستمروا في نهب خيرات مصر وثروات المصريين عن طريق فرض الضرائب والمكوس الجائرة، ويفسر هذا التصرف د. جاك تاجر في كتابه \”أقباط ومسلمون\” قائلًا: \”إن الأقباط لم يحركوا ساكنًا بعد مقتل عثمان والانشقاق الذي حدث بين أنصار علي بن أبي طالب وأعدائه، وقد أثار هذا الموقف دهشة المستشرقين، ولكن الأكليروس القبطي -وكان وقتئذ هو الذي يمكنه إشعال نار الثورة- كان راضيًا كل الرضا عن الاحتلال العربي، لأن عمرو أكرم بطريركهم كل الإكرام وأحاطه بالإجلال والاعتبار وطلب إليه نصائحه وبركته، وأمر بإعفاء رجال الدين من الجزية\”

واستمر المنهج ذاته عبر التاريخ، ففي زمن ولاية الخليفة الأموي \”عبد الملك بن مروان\”، ثار الأقباط في تنديمي وقربيط والحوف الشرقي في الوجه البحري، وامتنعوا عن دفع الضرائب، وقتلوا عمال الخراج في البشمور، وانتصر الأقباط على عساكر الحاكم مرتين بقيادة \”مينا بن بقيرة\”، فأرسل الوالي العسكر لتأديبهم، فقتلوا منهم الآلاف، فزحف المأمون بنفسه من بغداد إلى مصر على رأس قوة حربية ضخمة مكونة من ثلاثة جيوش ليحاصر البشموريين وليخمد الثورة، واستدعى الأنبا يوساب الأول بطريرك الأقباط، وطلب منه أن يتعاون معه في إخماد التمرد، فحرر البابا رسالة للثوار حثهم على إلقاء السلاح وتسليم أنفسهم لولاة الأمير، لكن البشموريين رفضوا الاستسلام وعقدوا العزم على مواصلة الثورة والقتال، ولما لم يؤثر الخطاب فيهم، ذهب البطريرك بنفسه إلى البشمور، وطلب من الثوار الاستسلام، وبدأ الأساقفة الأقباط في إرسال رسائل الحث على ترك السلاح للثوار، بل وتهديد بعض الأساقفة المؤيدين للثوار والثورة بالحرمان مثل الأنبا إسحاق أسقف تنيس بشمال شرق الدلتا، وفي النهاية لما قدم الأساقفة بأنفسهم حاملين معهم هذه الرسائل، انقض عليهم البشموريون وجردوهم من ملابسهم وأمتعتهم وطردوهم بعد أن أوسعوهم سبًّا وشتمًا، ولما عاد هؤلاء الأساقفة إلى البطريرك وقصوا عليه ما حدث، قرر البطريرك أن يترك هذا الشعب إلى مصيره، وقد أدى تصرفه هذا إلى إعطاء الضوء الأخضر لتعاون بعض الأقباط في العمل كمرشدين في جيش العرب، فركز المأمون جميع قواته ضدهم وأعمل فيهم الجند والسيف وأحرقوا مساكنهم وهدموا كنائسهم وقتلوا صغارهم وسبوا نساءهم، فقتل من الرجال ثماني مائة ألف وسبي الأطفال والنساء في ثلاثة أسابيع، ولما رأى المأمون كثرة القتلى أمر جنوده بأن يتوقفوا عن قتلهم، وأمرهم بالبحث عمّا تبقى من البشموريين وقادتهم، وأرسلهم على سفن إلى بغداد، مات معظمهم في الطريق، ومن نجا منهم فقد سيقوا كعبيد ووزعوا على العرب، وقبل أن يغادر مصر قام بمكافأة البابا يوساب بأن قلده منصب الرئيس الروحي لجميع كنائس مصر وأعطاه سلطات على كل الكنائس القبطية في مصر وعلى كل ما يعملون بها.

الجزء الأعظم من محنة الأقباط تنبع من داخلهم بتبعيتهم الحمقاء لرجال الكنيسة وقادتها في شئون السياسة، ففي نفس الوقت الذي يعاني فيه الأقباط من الاضطهاد الممنهج من قبل الدولة، يهلل الأقباط فرحًا بالعلاقة الوثيقة التي تربط البطريرك بالحاكم، والتي يستغلها الطرفان، البابا والسلطة، لتحقيق مآربه الخاصة، ففي كل حدث سياسى لا يدخر البابا جهداُ ليلقى برأيه، والذي يتحول من مجرد رأى إلى رسالة سماوية مقدسة على عموم المسيحيين الالتزام بها وتنفيذها، بدءًا من الانتخابات الرئاسية والاستفتاءات، وحتى الانتخابات التشريعية، ثم يعود في مفارقة ساخرة ليحذر من مغبة خلط السياسة بالدين، لذا لم يكن مستغربًا أن يحل العام السابع عشر من القرن الحادي والعشرون بينما حال الأقباط كأقلية مضطهدة في مصر لم يتحرك قيد أنملة ناحية المواطنة، بل تحرك خطوات ناحية الأسوأ، ونحو ترسيخ مبدأ الذمية، فعلى مر العقود الماضية تفانى بعض أساقفة الكنيسة القبطية وبعض الوجوه القبطية المعروفة في رفض كل الجهود المبذولة لترسيخ دولة القانون، وفي المقابل ترسيخ مفهوم زائف للوطنية والتسامح المسيحي، يقضي بالتغاضي عن الحقوق وعن تحقيق العدالة فى الجرائم التى وقعت بحق الأقباط، والتنازل عن عن التعويضات بحق القتلى والجرحى، والاتهامات بحق المذنبين والمجرمين.

ومع كل حادثة طائفية يلتقي البابا أو بعض أساقفته مع المسئولين، ليتنهي اللقاء كما هو متوقع بتنازل الأقباط عن حقهم، وقبول التهجير في بعض القضايا، وإقرار ما يعرف بالجلسات العرفية، كبديل عن محاكمات قانونية عادلة للمعتدين، من خلال كيان ممسوخ يدعى \”بيت العائلة\” والذى تحول إلى وسيلة لتفريغ مشاكل الأقباط من مضمونها وتسويف الحلول وتحول الجاني إلى ضحية، ليصير الأقباط ضحية الكنيسة نفسها قبل أن يصيروا ضحية النظام والمجتمع الطائفي
مع كل حادثة طائفية تقع للأقباط وهم كثر، يناقض الأقباط أنفسهم، فمرة يدعون أنهم في حماية \”ربنا\”، وهو القادر على أن يأتي لهم بحقوقهم ويرد لهم مظالمهم، بالرغم أن الحقيقة المؤلمة التي فسرها أ. مجدي خليل رئيس منتدى الشرق الأوسط للحريات، أن \”مسألة حماية ربنا وخلافه هي إسقاطات نفسية لأقلية عاجزة ومضطربة ومفسخة نفسيا، لأن المطالبة بالحقوق لا تتعارض مع الإيمان الحقيقى، بل إنها جزء منه، والشهادة للحق هى من سمات المؤمن الحقيقى، الأقباط فى مأزق نفسى حقيقى ولهذا يتاجر بهم المتاجرون\”

فمع كل حادثة طائفية تقع للأقباط وما أكثرهم، يلجأ الأقباط لعبارات التسكين والتخدير، من نوعية \”أنت مش من هنا. أنت ليك وطن تاني؟\” و\”في العالم سيكون لكم ضيق\”، مع بعض الترويج لقصص الإستشهاد البطولية، والتنعم بـ \”الملكوت الأبدي\”، وتمني \”إكليل الشهادة\”، و\”ياريتني كنت مكانهم\”، و\”يا بختهم راحوا السماء وعايشين في أحضان المسيح\”، وفي حادثة البطرسية الأخيرة ارتفعت نبرة تلك الهلاوس والضلالات على مواقع التواصل الاجتماعي، فأجاب عليهم بعض العقلانيين \”يارب تشوفوا ولادكم شهداء مع الملايكة والقديسين، وتفرحوا بيهم في ملكوت السموات في الحادثة الجاية\”، لتنقلب وجوه نفس الأقباط الذين يتغنون بتلك الهلاوس غيظًا وكمدًا. ربما حري بهم أن يبحثوا عن طبيب نفسي متخصص في علاج الهلاوس الدينية.

على مدى الأربعين عامًا المنصرمة، لم تفلح كل الحوادث الطائفية ضد الأقباط أن تجعلهم يتخلون عن ثقتهم اللامحدودة في الأمن والنظام، بالرغم أنه لم يحدث ولا مرة واحدة وأدين أي متهم في أي حداثة طائفية منذ أحداث الزاوية الحمراء عام 1981، مرورًا بأحداث الكشح عام 1999، انتهاءًا بتفجير كنيسة القديسين 2011 والكنيسة البطرسية 2016، ومع كل خيبة أمل في عدالة النظام، يزداد الاقباط تمسكًا به، محاولين الاستعاضة عن خيبة الأمل ببعض الغيبيات المثيرة للغثيان، والتي تعطيهم بعض الأمل حتى الاعتداء القادم، مثل أسطورة \”ألسنة النار التي هبطت من السماء لتحرق بيوت المسلمين فقط حول قرية الكشح\”، أو أسطورة \”أسراب الجراد الصحراوي\” الذي هاجم مصر منذ بضع سنوات، كانتقام إلهي ساذج، بعدما أفضت عدالة النظام إلى براءة جميع المتهمين، حتى في حادث البطرسية الاخيرة، تغنى الأقباط المغلوبين على أمرهم بالإنجاز الأمني غير المسبوق في كشف الجاني في القضية، أي إنجاز أمني بعد مذبحة راح ضحيتها نحو 28 بريئا بحزام ناسف، استطاع فيها مدبرو العملية الحصول على المتفجرات والولوج بها بكل بساطة داخل القاهرة وحتى ميدان العباسية، وعلى بعد كيلومترات قليلة من قصر الاتحادية ومقر الرئاسة، لينفذوا عمليتهم بسهولة قطع قالب من الزبد بسكين حاد!

لاهوت التخدير الذي أرسى باباوات الكنيسة ومجمعها المقدس قواعده بعد يوليو 52، جعل أقباط مصر يتناسون عمدًا أن المسيح ذاته لم يرض بالذل والإهانة، ولم يحول الخد الآخر مثلما يوصي البابا أقباط مصر المظلومين، بل انتفض ضد الظلم، فعندما «لطم يسوع واحد من الخدّام كان واقفا، قائلا: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ أجابه يسوع: إن كنت قد تكلّمت رديّا فاشهد على الرّديّ، وإن حسنا فلماذا تضربني؟» – أنجيل يوحنا (18-22: 23)
لاهوت التخدير الذي رسخ كهنة الكنيسة القبطية أساقفتها أساساته، جعل أقباط مصر يتناسون عمدًا أن الرسول بولس تمسك بحقوقه المدنية كمواطن روماني حتى النفس الأخير، ولم يكتف بالصلاة والصوم والتضرع، ولم ينزو في صمت منتظرًا أن ينتقم له الرب كما يردد قادة الكنيسة في خطابهم المعلن للأقباط، فعندما تقدم رئيس الكهنة ووجهاء اليهود بشهادة زور ضده عام 63 م لدى والي اليهودية \”فستوس\” وأرادوا قتله غدرًا، قال بولس بكل قوة وشجاعة للوالي \”فستوس\”: «أنّي ما أخطأت بشيء. إلى قيصر أنا رافع دعواي» – أنجيل اعمال الرسل (25: 11)، وهذا التعبير كان يستخدمه المواطن الروماني ليطالب بوقف القضية أمام الوالي فورًا، ليهرب المواطن الروماني من ظلم الولاة المحليين غير الرومانيين إلى قيصر روما ذاته.

بمرور السنين والعقود، تناسى أقباط مصر مسيحهم الحقيقي وعبدوا مسيحًا آخر ممسوخا حسب هوى الدولة والنظام والكنيسة، مسيحًا لا يعرف إلا الخضوع والذل والعبودية، مسيحًا غير المسيح.

كان المسيح نجارًا كادحًا فقيرًا يرتدي رث الثياب أفقرها، كان ثائرًا على النظام، ومحرضًا ضد قيصر روما العظيم، قُدم للمحاكمة الظالمة بسبب تلك التهمة وحكم عليه بالصلب، كان متمردًا على الكتبة والفريسيين والسلطة الكهنوتية، ونعتهم بـ \”أولاد الأفاعي\”، فاتهموه بالإلحاد وقالوا إنه مجدف على الله، كان يساري الهوى، مناديًا بالعدالة الاجتماعية، بحسب ما قال \”إنّ كل من له يعطى ومن ليس له فالّذي عنده يؤخذ منه \”، كان مناهضا لجشع الأغنياء، طرد المرابين من الهيكل، مؤكدا أن \”مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنيّ إلى ملكوت الله\”، \”لأنّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟\”، ونادى بفصل الدين عن الدولة قائلا \”أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه\”

بمرور السنين، باتت المسيحية المصرية الحالية نسخة مشوهة للمسيحية الحقيقية، بعدما أختُزلت في مجرد طقوس وبخور وغيبيات، وحولت أتباعها إلى قطيع يسير مغمض العينين حول أي راعٍ يعده بالحماية والخلاص، وعلى مر العصور ظل الراعي يبحث عن مجده وشهرته وسطوته، ويربطها بالقائد والحاكم والزعيم -العسكري- في معظم الأحوال، الذي يثبت سلطته على الأقباط من خلال صفقات أبعد ما تكون عن روح المسيحية. 

*عنوان المقال وبعض من مقاطعه مشتقين من بعض حوارات وكتابات أ. مجدي خليل، مدير منتدى الشرق الاوسط للحريات
المصادر:
عظة القس مكاري يونان
– كتاب \”وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها\” الجزء الاول – للقمص أنطونيوس الأنطوني
كتاب \”أٌقباط ومسلمون\” – د.جاك تاجر
حوار البابا تواضروس مع جريدة الأهرام

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top