بيشوي القمص يكتب: أوردر ديليفري

دقت الرابعة مساءًا بالضبط، تسمرت للحظة غير مصدق، فلم أعتقد أن لهذا اليوم السيء نهاية، تركت كل شيء مكانه، ونزعت فيشة حاسوبي المحمول بغل وقسوة ملحوظين، وأغلقته عنوة بضغطة زر، فلحظة نهاية عمل يوم الخميس لا تقارن بأي لحظة أخرى، حييت مديري بإشارة من يدي وبضع غمغمات غير مفهومة، ولم أنتظر منه ردًا، نظر لي تبرمًا وشذرًا، فلم أكترث، قطعت درجات السلم المائة والثماني والعشرين درجة دفعة واحدة بعد أن فقدت الأمل في العثور على مكان خالٍ في مصعد يقف أمامه طابور من الموظفين المملين أطول من طوابير المخابز العامة، أستقليت سيارتي ولم أعبأ بسباب السايس الذى تركته يعدو خلفي نحو خمسمائة متر بعد أن تهربت من دفع إتاوة الأسبوع المعتادة، قبل أن ينهار ويستسلم وهو يدعو الله بصوت عالٍ أن يرزقني بمطب \”يقطم وسط العربية\”، انطلقت مسرعًا إلى مصر الجديدة حيث منزل صديقنا شادي مثلما اتفقنا في الأسبوع الماضي، فقد أصابه الدور هذا الأسبوع ليكون التجمع اليوم علي شرفه وفي سطح منزله، فمنذ انتهينا من دراستنا الجامعية ولم تفوت شلتنا الصغيرة ليلة واحدة من ليالي الخميس المباركة بدون أن نقوم بطقوسنا الخاصة، التجمع ما بين الخامسة والسادسة طبقًا لمدى ازدحام شوارع المحروسة، أوردر طعام جماعي شهي يكفي لسد عشرة بطون جوعى، نتناوله بنهم على سطح منزل أحدنا، قبل أن يأتي حسام ديلر شارع النزهة حاملًا روائع من النبتة المقدسة الغارقة في زيتها (الحشيش)، حسام -وعن تجربة- من أكثر الديلرز أمانة في مجاله، فلو كان الصنف متدني الجودة يومًا ما، يطلب منك حسام وبكل ثقة أن \”متاخدش من عندي النهاردة\”، كما يفعل تجار الفاكهة المحترمون، ولذا فإن حسام يحظى بثقة الأغلبية.

بدأ حسام نشاطه من الصفر، حتى وصل اليوم إلى ما هو عليه وأصبح المورد الرسمي لأكثر من 90% من شباب مصر الجديدة.

قبل أن أصل لمنزل صديقي شادي كان حسام -المعروف بدقة مواعيده- قد سلم الأوردر كاملًا لشادي وعليه حتة زيادة تحية منه.

عجيب اجتهاد هذا الشاب وإخلاصه وتفانيه في عمله! اشتممت رائحة القطعة المشبعة بالزيت في نشوة حقيقية، بينما يتلو عليّ شادي إسطوانته المعتادة عن زميلة العمل التي تنصب شباكها حوله وهو لا يبالي، كالعادة أثارت رائحة الحشيش شهيتي بدون سبب علمي يربط ما بين رائحة الحشيش والشعور بالجوع، قبل أن يتوالى وصول الجميع ويكتمل النصاب القانوني لإجراء التصويت على اختيار الطعام.

في ديموقراطية شديدة وقع اختيار الأغلبية على مطعم جديد للأسماك في شارع عباس العقاد بمدينة نصر، وبالرغم أني لست من مريدي السمك ولا الجمبري، إلا أنني وافقت احترامًا لرأي الأغلبية.

طلبنا الأوردر وبدأت في إشعال الفحم ورص الحجارة على الشيشات التي انتشرت في أنحاء المكان، ثم توزيع قطع الحشيش بعد تفتيتها وتقسيمها بالتساوي على السادة الحضور.

البعض يفضل استنشاق دخانها في كوب زجاجي، والبعض يفضل استحلابها تحت اللسان بعد خلطها بقطعة من الحلاوة الطحينية، والبعض يفضل تعذيبها وحرقها حية على فحم الشيشة.

دارت الرؤوس ومرت ساعة ونصف من الزمن، ولم يصل الأوردر!

تطوع هيثم بصفته الوحيد غير المدخن، وبالتالي فهو الوحيد الذي لايزال محافظًا على توازنه حتى الآن، بالاتصال بالمطعم، وبعد ديباجة الأسئلة المملة السخيفة، أخبرنا فتى الكول سنتر أن الأوردر قد خرج من نصف ساعة ولن يمر أكثر من عشرة دقائق قبل أن يصل إلينا.

مرت عشرة دقائق، تبعتها عشرة دقائق أخرى، ثم عشرة ثالثة قبل أن يتصل بهم هيثم مرة أخرى، ليخبره نفس الفتى المستفز بنفس الإجابة السخيفة: \”عشر دقايق والأوردر يكون وصل عند حضرتك\”، انتظرت لربع ساعة إضافية قبل أن أتصل بالمطعم وأكيل لهم ما لذ وطاب من مختلف أنواع السباب وأقذرها على الإطلاق.

صرعني الفتى ببروده المستفز وسؤاله: أنا مش فاهم حضرتك متضايق ليه يا فندم؟!

أصدرت صوتًا من أنفي ولم أجبه، ثم أغلقت الهاتف في وجهه.

بعد نصف ساعة إضافية وصل الأوردر باردًا، أما شوربة السي فود، فقد أنسكب نصفها على الأقل في الشنط البلاستيكية!

رفضت أن أتسلم الأوردر بالطبع، لكني استجبت في النهاية بعد إلحاح الرفاق، فقد بلغ الجوع أشده بعد انتظار دام لنحو ثلاث ساعات، وقد بدأ بعضهم في الإصابة بهبوط حاد بعد دورة الحشيش على معدة فارغة.

تسلمت الأوردر ورفضت بالطبع أن أنقد فتى الديلفري أي بقشيش، فنظر لي شذرًا متعجبًا لماذا رفضت أن أهبه البقشيش المعتاد الذي يحصل عليه طيارو الدليفري، ثم غمغم بكلمات غير مفهومة قبل أن يشيح بيده بعيدًا ويغادر.

تمالكت أعصابي قبل أن ألقي به من الدور العاشر كمدًا وغيظًا، ثم أسرعت في محاولة شبه فاشلة للحاق بما تبقى من الأوردر، الذي تكالب عليه الجميع كمن لم يأكلوا طعامًا منذ قرون.

قضينا ما تبقى من الوقت في إطلاق السباب واللعنات على المطعم \”ابن التيت\” الذي أفسد علينا سهرة الخميس المعتادة، ثم انصرفنا كل واحد إلى حال سبيله على اتفاق باللقاء الخميس القادم كالمعتاد.

يوم الخميس التالي، دقت الرابعة، فوجدت مديري ينظر لي شذرًا قبل أن أهم بالمغادرة، نظرت له وابتسمت، فأبتسم.. لابد أنه مصاب بالحمى اليوم!

غادرت مسرعًا إلى السيارة، فوجدت السايس يجلس على الكبوت بكل أريحية ينتظرني أن \”أعكمه\” إتاوة هذا الأسبوع، استسلمت ودفعتها عن طيب خاطر متجاهلًا حديثه عن ضرورة تسديد إتاوة الأسبوع المنصرم.

انطلقت إلى بيتي، فاليوم السهرة على سطوح منزلنا الكريم في البناية الملاصقة لقسم النزهة بشارع عبد العزيز فهمي، وصلت مبكرًا ولمحت حسام بطرف عيني وهو يتبادل الحديث ضاحكًا مع أحد أمناء القسم، لمحني بطرف عينه، فحيى الأمين بحرارة قبل أن يناوله صاروخًا نوويًا محظورًا من قبل هيئة الطاقة النووية، ثم تحرك ناحيتي ليسلمني الأوردر.

الفتى المجتهد أتى في موعده بالدقيقة، وينتظرني تحت منزلي منذ ما يقرب من نصف ساعة.

لو تفانى الشعب المصري نصف تفاني حسام في عمله، لصرنا من أعظم شعوب العالم!

تأملت القطعة الدافئة واشتممتها بنشوة؟ قبل أن ألمح الأمين وهو يراقبني بتمعن، ألقيت التحية مبتسما، فبادلني التحية بنفس الود وهو يشير إلى جيب قميصه حيث الصاروخ الملغوم ويضحك، فاستشعرت الأمان.

صعدت مباشرة إلى السطح، وبدأت في إعداد الجلسة.

بدأ توافد الرفاق واتفقوا بالإجماع على أن يكون الطعام من نفس مطعم الخميس المنصرم، فبالرغم من تأخيره في المرة السابقة لما يزيد عن 3 ساعات، إلا أن الطعام كان بالفعل شهيا للغاية ولا يقاوم، وبالرغم من تحذيري فقد أصر الجميع، فاستسلمت وقبلت.

أسوأ ما في الديموقراطية أنها قد تجبرك على الانصياع للآراء الغبية، لكني رفضت أن اقوم بدوري المعتاد في طلب الأوردر بنفسي، هنا نهض شادي الذى لم يصبر على تفجير صاروخه النووي، وقد بدأت آثار الحشيش تظهر على عينيه، وأصر على أن يطلب الأوردر بنفسه، ولم نعارضه .
شادي: ألو. مطعم \”…\” للأسماك؟

– ….

شادي: 6 وجبات بوري مشوي و2 بوري مقلي و9 رز و5 شوربة سي فود ونصين جمبري مشوي وكولا 2 لتر، واتوصى بالسلطات والطحينة وحياتك.

– ….

شادي: لا مش هتلاقي الرقم عندك.. سجل عندك يا ابني.. المقدم أحمد أبو العز مباحث التموين.. سامو عليكوا.

أغلق شادي التليفون بعيون نصف مغلقة ولم نتفوه البتة.

بعد أقل من 15 دقيقة كان فتى الديلفري واقفًا على باب السطح، تذكرني على الفور عندما تسلمت منه الأوردر الساخن، ورفض بكل شدة أن يحصل على مليم إضافي كبقشيش قائلًا إنها تعليمات صاحب المحل، سألني على سيادة المقدم أحمد أبو العز، فأجبته أنه قد أضطر للنزول للقسم المجاور لدقائق وسيعود لتناول الطعام برفقتنا، لم يبدو على الفتى أنه صدق الأكذوبة، وابتلعها ومضى إلى حال سبيله، نظرت إلو صورة سعد زغلول الذي يصر والدي على تعليقها على أحد حوائط السطح بحجة أنها ذكرى من والده، تمتمت في سري: \”مفيش فايدة\”، ثم انقضضت على الطعام قبل أن ينسفه جيش التتار نسفًا.

(قصة قصيرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top