يأخذك وثائقي «جاي الزمان» للمخرجة دينا محمد حمزة إلى عالم الشجن، وهو ينسج مرثية للأب الراحل، والأم التي سبقته في الرحيل، ويتلمّس مأساة تفيض عن الشخصي، وتسقط بظلالها على تاريخ كامل، يلفّ كل شيء في مصر والعالم العربي. إنه زمن الرحيل المرّ، وانهيار الأحلام، وسيادة الصمت والفراغ، حتى لا نقول الخيبة.
هذا وثائقي مشغول بنداء الروح التي تستغيث متشبثةً بآخر شهقات الحياة، وأوهن خيوط الأمل، إلى درجة أن المخرجة تخيّب ظنّ كلّ من انتظر، أو توقّع، أن يشاهد فيلماً يوثّق حياة الشاعر الغنائي الشهير محمد حمزة (1940 – 2010)، ويتغنّى بها، لنكون أمام وثيقة للأب الذي رحل، والمبدع الذي ترسّخ في الوجدان، والعائلة التي وجدت نفسها في مهبّ عاصفة عاتية من الحرمان، والجيل الذي لا يتكرّر، والبلد الذي تغيّر… إنه نوع من التراجيديا المصرية الغارقة في لجّة الفقد، من موت جمال عبدالناصر، وعبدالحليم حافظ، إلى فقد الأب (محمد حمزة) والأم (فاطمة مختار)، وموت الأمكنة الأثيرة، وخفوت الضجيج البديع، لتفقد الحياة معناها وبهجتها، وجاذبيتها للعيش.
يرحل محمد حمزة؛ الشاعر الذي غزل أرقّ الكلام وأعذبه، في أجمل ما قدّمت الأغنية العربية، بموضوعاتها الإنسانية المختلفة، من الفرد إلى الوطن، ومن العاشق إلى الفدائي، و«عيون بهية»، فيترك فراغاً جعل ثوّار ميدان التحرير عام 2011 ينشدون «يا حبيبتي يا مصر»؛ كلماته التي كتبها قبل أربعين سنة من ذلك، ويترك وجعاً تنزفه عائلته الصغيرة (دينا، ودعاء، وأحمد) في مواجهة أقدارها، ويترك أسئلة معلّقة بأجوبتها عن ذاك الزمن وتلك الأيام، ويترك أملاً بأن الحياة تستمر.
«جاي الزمان» وثائقي إنساني عميق ومؤثّر، على مستوى المضمون، وشجاع وجريء على مستوى البناء والسرد، لاسيما وهو يتخلّى عن التقليدية والسائد، وينقضهما، ويتحرك بحرّية وسلاسة، وفي تلقائية (أقرب إلى الفوضى) تأخذك معها حيث شاءت. وعلى رغم فيض المعلومات التي يقدّمها «جاي الزمان» إلا أن المخرجة تعرف أنها لن تقدّم الكثير الجديد على هذا الصعيد، إذ أن محمد حمزة؛ الركن الثالث مع كلّ من عبدالحليم حافظ وبليغ حمدي، والشريك الأساسي والصائغ الماهر لسبائك الكلام، صورة واضحة، ومعلومة حاضرة، من الصعب أن يكون فيها زاد لمُستزيد، وربما كان على الوثائقي أن ينظّم هذه المعلومات ويرتّبها.
يبتعد «جاي الزمان» عن محمد حمزة، ليقترب منه أكثر. يذهب الوثائقي إلى موضوعات شتى، وحالات مختلفة، وشخصيات متعددة، نالت منها أعطاب مختلفة. يتأنّى في تعريفنا بأفراد العائلة، إلى درجة يُوهمنا بأن دينا هي وحيدة أبويها، قبل أن نتعرّف إلى شقيقتها التوأم دعاء، ومن ثم شقيقها الوحيد الأكبر أحمد. ثمة ما يوحي بأن الفيلم شديد الذاتية. كأنما هو صوت المخرجة عن نفسها، لا عن أبيها. محاولتها الاغتسال من الوحدة، والفجيعة، بعد فقدانها والدها، وهو الملجأ الذي ما كانت تتخيّل أنه سيغيب. مأساة فردية وعائلية في آن.
الانتقال ما بين الذات والموضوع، ما بين حكاية المخرجة، وسيرة والدها، وتعميق اشتباكهما، وتبرير هذا الخيار السردي الذي شاءته، ما بين لقطة البداية ولقطة النهاية، يميل بوثائقي «جاي الزمان» إلى شكل من الملحمية العائلية، بخاصة أن ثمة أقدار دامية، ومصائر تراجيدية، ومعاناة عميقة، تعصف بغير فرد من هذه الأسرة المنكوبة، إلى درجة ورود فكرة الانتحار لدى الابنة دينا، ما بين الحلم واليقظة، الآنا والآخر، الواقعة التي حدثت فعلاً يوم رحيل عبدالحليم، والواقعة المأمولة أو المُشتهاة، بنكران شديد، ولم تحدث يوم رحيل حمزة.
سيبدو الأمر أبعد من مجرد فكرة أن «كلّ فتاة بأبيها مُعجبة»، فالأب هنا استثناء على مستوى الإبداع فعلاً، ويستكمل وثائقي «جاي الزمان»، من وجهة نظر الفتاة، دائرة استثنائية أبيها، على المستوى الشخصي والإنساني، ومستوى الأبوّة، فيتلمّس جوانب من تضحيته وعنايته وغيريّته. من أناقته ووسامته ورجولته ووفائه. الإنسان الغامر الذي برحيله تتوقّف بهجة الحياة، ويسود الصمت، ويعمّ السواد. و«جاي الزمان» لا يتردّد في التأكيد على ثنائية الحضور والغياب، والحياة والفقد، الماضي والحاضر، في مرثية نازفة تبدي شديد الأسى على الحاضرين بانكساراتهم، كما على الغائبين بتألقهم، فتنفر من الزمن الحاضر وتنتمي إلى الزمن الذي غاب؛ زمن الكبار.
ما بين التعليق الصوتي، والتصريحات والشهادات، والحوارات واللقاءات، والاستعانة بصور فوتوغرافية وفيديوية، ولقطات أرشيفية من الإذاعة والتلفزيون، ومشاهد إعادة تمثيل، وتيمات وأيقونات بصرية، ومقاطع غنائية وكلمات وأشعار، تؤثّث المخرجة دينا محمد حمزة فيلمها، على مدى 103 دقائق، نكتشف مع لقطاتها الأخيرة، التي تغلق دائرة السرد من حيث انطلقت، إلى أننا أمضينا في «جاي الزمان» عمراً مع محمد حمزة، وعالم من الشجن، من خلال ما بقي منه، وما بقي له في الأماكن والذاكرة والناس، كما تقول دينا في لحظة استشفاء أرادتها من الفيلم.