بشار إبراهيم يكتب: "المهاجر".. بين يوسف النبي ويوسف المخرج

عندما صدّر المخرج يوسف شاهين فيلمه \”المهاجر\” بعبارة مكتوبة تقول: \”أحداث هذا الفيلم لا تمتّ بصلة إلى أية قصة أو حادثة في التاريخ. إنها رؤية سينمائية خاصة مستوحاة من تراث الإنسانية\”، لم يكن يجافي الحقيقة، بل لعله توافق بقوله هذا مع الدراسين والباحثين، الذين حاذروا اعتبار الكتب السماوية مصادر تاريخية، وتوقفوا بصدد ما ورد فيها، عند حدود الموعظة والعبرة، إيماناً بأن هذه الكتب ما فوق تاريخية، تتسامى على الزمان والمكان.
على سنارتي المطابقة والمغايرة، يحيك المخرج يوسف شاهين (1926- 2008)، فيلمه \”المهاجر\” (1994). حيناً، يقترب من الحكاية إلى حدّ المطابقة، ويبتعد في أحيان أخرى بغية المغايرة، وبين هذه وتلك ما كان للفيلم إلا أن يثير إشكاليات خارجة عنه، أكثر مما اهتمت بمتضمّناته.
ليس المهمّ، هنا، أن يطلق المخرج على بطله اسم \”رام\”، ولا أن يجعل أخوته \”سبعة\”، ويُلقى به في \”قاع مركب\”، ولا أن يقتفي خطاه على \”أرض مصر\”، ويصعد على سلالمها إلى قمّة الهرم، ريثما يعود إلى والده، الراسخ في انتظاره، ريثما يستعيد ابنه، و\”رؤيته\”.
الأصل، هو اتجاه هذا الاقتباس من \”تراث الإنسانية\”؛ الطريقة والمغزى، والعمل على صياغته سينمائياً، والقدرة ما بين هذا وذاك على تخليص الحكاية من تعاليها على التاريخ، وإرجاعها إلى حيث ينبغي؛ قراءةً فكريةً، ومعالجةً بصريةً. أمران يتكاملان تماماً أمام فيلم يُزمع، بشكل ملحميّ، ما هو أكثر من الحكاية، وأبعد من السيرة الشخصية، ووقائع الزمان، وتفاصيل المكان، وإعادة تمحيص هذا الجزء من \”تراث الإنسانية\”، وفق تعبير الفيلم ذاته، ودلالاته المعاصرة.
منذ البدء؛ مع مشهد الذئاب، سيبدو \”رام\” (خالد النبوي) محكوماً بقدرٍ، لا فكاك منها، يتحكّم به، ويُخضعه لـ\”التجربة\” المرسومة الخطوات، دون أن يلهج لحظةً بالصلاة: \”ولا تُدخلنا تجربة\”!.. يستقي \”رام\” منابعه الإيمانية من والده، دوناً عن أخوته وأخواته، في مجتمع القبيلة البدائية، ومن دون أن ندري لهذا سبباً، سوى تعزيز استثنائية \”رام\”، وخصوصيته، وهو الذي يستمرئ حالته هذه، إلى درجة أننا نراه مُستلهماً ذاك في تعامله مع الأشياء المحيطة، والذهاب في السياق الذي يتلبّس مصيره، في قوة غيبية، تحضر منذ المشاهد الأولى، وترافقه على مدى تجربته الحياتية، التي كان عليه أن يعيشها مثل أيّ إنسان عادي.
المثير هنا، أن الفيلم، الذي أراد الإيحاء بأن مُراده تنقية الحكاية من لاتاريخيتها، وإعادتها إلى حضن التاريخ، والجغرافيا، باعتبارها جزءاً من \”تراث الإنسانية\”، وقع في اللاتاريخية ذاتها، وانساق وراء إغواء \”السيرة المغيبة\”، فدجّجها بالإشارات \”الميثيولوجية\”، في خلط غير حصيف ما بين الأنساق التي اجتازتها الإنسانية، في لعثمتها طويلة الأمد، كما في مشهد السلحفاة غير الزائد، من الخرافة والأسطورة إلى الدين، ومن الوثنية إلى التوحيد، في توازٍ تاريخي، تمثّل بالانتقال من مجتمع القبيلة الرعوي (وإن أظهره الفيلم بصرياً بدائياً)، إلى مجتمع الزراعة.
ما كان لـ\”رام\” أن يضرب البحر بعصاه، ويشقّ طريقه، فذاك سوف يتأتّى لغيره، فيما بعد. الآن عليه عبور البحر، مُكمَّماً مرمياً في قاع مُعتم \”لا ينتظر المارّة، ولا قوافل السيّارة\”. لا يأبه الفيلم، إلى مسألة العناية بتنقية الواقعة، ولا الاهتمام بالخلاص من الصدفات المُرتبة، على نحو لا يمكن إلا لقوّة خارقة، القيام بها، في خطّة إلهية مُحكمة، بل ينساق معها إلى آخر مدى.
مع انتهاء الربع الأول من زمن الفيلم، بات واضحاً أنه يريد صياغة سينمائية ملحمية المشهدية لمصر الفرعونية، برؤية \”شاهينية\”. حينها كان \”شاهين\” انتهى من ثلاثية سيرته الذاتية، ومرّ على تواريخ مصرية، معاصرة وشبه معاصرة. كان \”المومياء\” استعاد اعتباره، وترك شادي عبدالسلام لمن لا يقلّ عنه مهارة مهمة الذهاب مباشرة إلى \”السيرة المغيبة\” من مصر الفرعونية، التي توقّف عند آثارها وصداها.
يأخذ \”رام\” صيغة مسبار يسلّط الضوء على جوانب من الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، والوقائع اليومية، في مصر الفرعونية؛ اشتباك الحياة بالموت، والعلم بالدين، والوثنية بالتوحيد، والمساهمة في الانتقالة الحضارية الكبرى. لن يدلّنا الفتى \”آرام\” إلى \”يوسف النبي\”، بل إلى \”يوسف المخرج\” نفسه. \”المهاجر\” الذي جاء مصر باحثاً عن فن العصر، فعلّموه وعلّمهم، وتوجّوه، وودّعوه بالقول: \”ح يبقى صعب الواحد ينساك\”. ترك \”آرام\” مصر الفرعونية، ومضى، وسيبقى \”يوسف شاهين\” في البال مع تلك المشهديات الباذخة، لمخرج عرف دائماً كيف يقول المراوغة سينمائياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top