عن طفولتنا المشردة التي أهلتنا لأن نصبح أعظم أمة شوهت في العالمين .. تفاصيل وصور لم انساها من حياتي الشخصية.. لن أحكي عن المسلسلات ولا أفلام الكارتون ولا الأغاني التي جعلتني أحب صابرين كمطربة، وأخاف من الكتكوت في كوكي كا.. وأن ابحث عن طفلة تشبه صفاء أبوالسعود كي أحبها.. لا اعلم حجم المأساة التي كانت ستحدث لو أحببت فتاة تشبه صفاء وتغني لي: \”يا أصحابي وصحباتي هنا ومحلك سر بصوا وشوفوا حاجاتي إنما إيه في السر\”.. وتعلمت حينها أن إذاعة أخبارك الشخصية جدا للأصحاب والصاحبات في السر ليست سرا.. ستكون مكشوفا للجميع أفضل من أن يكشفك أحدهم .. ومن هذا المنطلق أكشف لكم سري.
ولدت في بيت بسيط بمنطقة أبوقتادة – عندنا بنقول بيت مش عمارة – المحاطة بمنطقة بين السريات وجامعة القاهرة والمترو وشركة ايسترن كومباني للسجائر ومحطات الأتوبيس وأدخنتها التي لم تفارق أنفي إلا عندما كبرت وانتقلت إلى منطقة أخرى أستقيظ فيها على كابوس الأدخنة التي تجري ورائي لتخنقني في الحلم، واطاردها وتطارني وأهزمها حتما كل مرة بأن أستقيظ من النوم.
في شارعي القديم \”شافعي عزام\” بمنطقة أبوقتادة، تربيت وعشت جميع مراحل طفولتي.. منطقة عشوائية.. لا أعلم من هو شافعي عزام هذا الذي سمي الشارع باسمه، وكان سؤالا محوريا بيني وبين الأصدقاء في الشارع وكان كل منا يحكي حكاية ملائمة لخياله عنه لأننا كلما سألنا الكبار يجيبوننا بنفس الطريقة التي لا تؤدي لمعلومة مقنعة.. وظل لغزا إلى أن خرجت على عربة نقل العفش إلى منطقة أخرى.
في الدور الأرضي من بيت يطل على الشارع، كنت أسكن.. تقريبا كانت غرف البيت بالشارع لأن الدور الأرضي دائما مكشوف تحاول أن تستره بستارة ضعيفة وأسياخ حديد تشبه السجن، ولكن هيهات.. الكل هناك له الحق في كشف البيت ليسأل الساعة كام.. أو لمن يريد أن يشرب.. البيوت مباحة للجميع طالما بمقدوره أن يفعل هذا.. أن تعيش مع المارة ويعيشون معك في نفس الشارع.. إذا أردت أن تلعب من وراء \”أبوك\” بالشقة بعد أن يخرج، فأنت مطمئن أن أحدا ما سيخبره أنك تركت المذاكرة ولعبت، لأنه سمع صوتك وأنت تجري وتتنطط وتخبط الكرة في الحائط.. أنت ملك للجميع ومباح لهم.
مع هؤلاء الصبية الذين رافقوني في الطفولة، كنا نبتكر ألعابا جديدة.. الجميع كان يلعب الاستغماية بأن تختبئ بأحد المنازل حتى يبحث عنك، ولا يراك، لكن أطفال شارعنا كانوا يلعبون الاستغماية بطريقة قتالية.. عليك أن تختبئ من الفريق المنافس، فإنه قد يصيبك بطوبة في رأسك.. على الفريق الآخر أن يعور الفريق المنافس، فتحمل ببنطلونك عدة طوبات كي تحدفها على من يظهر وتجده.. وفي نهاية اللعبة تجد الجميع تسيل دماؤهم، والرابح هو من ظل صامدا للآخر دون استسلام ونسبة التعويرات أقل من الباقي .. ويكفي أنه ما زال على قيد الحياة.
لذلك كان يجب عليك أن تكون \”صايع\”.. لا أن تكون متفوقا.. فمعيار التفوق هنا في شارع شافعي عزام، ليس بتفوقك في الدراسة، ولكنها نقمة قد تصيبك، لأنك في نظرهم \”عيل خيخة ومش صايع\”.. فيجب عليك أن تتحلى بصفات الصياعة.
الصدفة وحدها جعلت مني صايع والحمدلله أني ربحت هذا اللقب حتى استطيع الحياة وسط أطفال شارع شافعي عزام وأطفال المدرسة.
للأسف كنت متفوقا في الدراسة إلى أن جاء دوري في اضطهاد أحد المدرسين لي، لأني لا أحضر معه الدروس الخصوصية، وكان رائد الفصل. فجعل شهادتي التي كانت مليئة بالأرقام النهائية، كعكا باللون الأحمر البغيض الذي أكرهه.. وكان عليّ أن اقدم هذا الكعك لأبويا لكي يمضي علي الشهادة ويثبت أنه رآها بنفسه، وأعيدها سالمة لرائد الفصل، ولكن أنا في مصيبة كبيرة، سيتم حبسي وآخذ علقة موت كما علقات يوسف منصور والشحات مبروك في بداية أفلام الأكشن.. هل أقدمها أم لا؟ ما الحيلة التي سأقولها لهم في البيت، وما السبب في هذا الكعك؟ هل سأقول إن المدرس يضطهدني لأني لا أحضر الدروس الخصوصية معه؟ في بيتنا ممنوع هذه الدروس، لأنها للفشلة، أما أنا فلا يصح أن آخذ درسا عند مدرس الفصل.
إلى أن جاءتني فكرة ستنقذني من الورطة التي أنا فيها، سأشتري شهادة شبيهة بشهادة الفصل واضع الأرقام الملائمة لذكائي وشطارتي التي يصدقها أبويا، وبالفعل صنعت شهادة بالأرقام المناسبة، وجئت بقلم فلوماستر بنفسجي، ورسمت ختم مدير المدرسة بأطرافه المتآكلة، وكأنه هو بالظبط، وقدمتها للبيت، ومضي أبويا على الشهادة المزورة واحتفظت بها لنفسي ومضيت مكان أبويا وقدمت الشهادة الحقيقية لمدرس الفصل، وعدت على خير.. لكن ما لم أعمل حسابه أن أحد المدرسين يقابل أبويا في الشارع اللعين ويخبره بأن مستوى ابنه في النازل، و يندهش أبويا ويطلب أرقام الشهادة، ولم يتأخر المدرس، فيحضر له الشهادة وكشف الفصل العام، ولو كانت الكاميرات موجودة، لصورني في كل تحركاتي وأعطاها له.
كان المدرس هذا يحب الخير لي مع أني لم أفعل له شيئا سوى أني متفوق في الدراسة.. وجاء أبويا إلى المدرسة، وأرسل الناظر طالبا من الشرطة المدرسية المعنيين بالحكم الذاتي هذا اليوم، وخبط الطفل الشرطي على الباب، وهذه عادة تهتز لها الأبدان، والقلوب تخرج من الجسد من شدة الرعب.. من عليه الدور للمثول أمام الناظر؟
وكانت المفاجأة.. الناظر عايز باسم ابراهيم شرف، عشان أبوه موجود. يالهوي!! جسمي يرتعش وقلبي يدق بشدة.. وقدماي تتأخر في المشي، ولكن الطفل الشرطي يشدني كأني مقبوض علي \”هذا الطفل وجدته أمين شرطة في كمين يأخذ خمسين جنيه من سيارة\”.
دخلت للمكتب وبدأت حفلة الضرب من الناظر والمدرسين، وكل من يمر يشارك ولو بضربة، حتى هذا الطفل الشرطي كان يشارك وكأنه حقه في الحفاظ على أمن المدرسة.. إلى أن هربت من تحت أيديهم وجريت بسرعة، وحاولت الهروب من باب المدرسة إلى أن مسكني.
عم حشمت عليه لعنة الله، حملني إلى المكتب مرة أخرىن وبدأت أدخل في حالة لامبالاة لم أعهدها لنفسي.. ولم أسمع حديثهم ولم انتبه لهم جميعا.. من ضمن كلامهم المتناثر \”أنا هوديك الإصلاحية مع الأطفال المشردين الحرامية واللصوص\” مع إن الحرامية واللصوص شئ واحدن ولكنها كانت ديباجة تقال على بعضها، ولم أظهر أي اهتمام لهم.. انظر إلى الأرض وأنا جالس وراء المكتب في الأرض.. وانتهت هذه الحفلة على إن أبويا ميضربنيش بقى، وكفاية اللي أخدته من نصيبي في الضرب هنا في المدرسة، وخاصمني أبويا أياما، لكن الناظر ماسكتش.. جاء في طابور المدرسة ونادى عليّ أمام الجميع، ووقفت صامتا وقال: \”اللي هيزور الشهادة هيكون زي ده.. وهو هيحكيلكم حصل معاه إيه\”.
ومن يومها – في الفسحة – يلتف حولي جماعة من أصيع طلاب المدرسة، ونتشاور في أهم القضايا التي سننفذها في كيفية الهروب من المدرسة ولعب الكرة في حوش المدرسة الصغير الذي يحتوي على ملعب فقط.. وبما أننا نلعب، فلا سماح لغير الصيع دخول الملعب، وباقي المدرسة موزعة في الأدوار تتابع ماتشات أهم صيع في المدرسة.. وأصبحت صايع بشهادة أحمد حريقة وسمير سلمون، مع الاحتفاظ باسمي باسم شرف، كأول صايع يدخل الإجرام المدرسي باسمه دون ألقاب.