كانت السيدة الإسبانية المسنة عائدة من السوبر ماركت بصحبة زوجها.. مرهقة من الحر ومن حمولتها، وغاضبة من الارتفاع المستمر في الأسعار.. كانت الأزمة الاقتصادية قد بدأت تداعب – بثقل ظل – معاشها ومعاش زوجها، مرت ببعض المهاجرين الجزائريين والمغاربة \”المتسنكحين\” في أحد الميادين.. بعد أن تجاوزتهم وجدت مجموعة من الشباب يقومون بتصوير فيلم.. نظرت بثبات إلى الكاميرا وصرخت: \”أنا مش عنصرية.. وربنا يعلم أن آخر واحدة ممكن تبقى عنصرية هي أنا، لكن العرب اللي جم هنا أغلبيتهم زبالة\”.
حاول المخرج أن يسألها إن كانت تعلم تعداد المهاجرين العرب في إسبانيا، وأن يشرح لها بأنهم قاربوا المليون مهاجر، وأن المتورطين في عصابات النشل وبيع المخدرات مجرد عشرات، أو مئات على الأكثر، فقاطعه زوجها غاضبا أكثر منها: \”أنت إسباني؟\”، فأجابة المخرج: \”لأ\”.
فختم الزوج الحوار: \”يبقي تسكت خالص\”.
من الصعب الإدعاء بأن الشعب المصري يحمل الكثير من مشاعر الود والحب تجاه الشعب الفلسطيني في الوقت الحالي.. بالعكس، فهي غالبا مشاعر رفض ونفور.. هل هذا لأنه شعب عنصري بطبعه؟ أم لأن ماكينة الدعاية الساداتية/المباركية، عملت منذ السبعينيات – في سياق عملية فك الارتباط المصري بالقضية الفلسطينية – علي الترويج لأكذوبة أن كل مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية سببها تضحايتنا من أجل فلسطين؟ ناهيك عن جمل مثل \”هم أصلا باعوا أرضهم\”! دعك من الفلسطينيين.. متى بدأت أقاويل من نوعية \”حمير وشايلين زكايب فلوس\” التي كان يقصد بها مواطني الخليج العربي؟ هل مع الاحتكاك العملي بين المصريين والخليجيين؟ هل بسبب نظام الكفيل؟ أم أثناء القطيعة العربية لمصر بعد إتفاقية كامب ديفيد؟ دعك من إجابة هذه الأسئلة وغيرها.. ولنتابع تداعي المشاهد.
بدأ سائق التاكسي القاهري في إطلاق منولوجه الخاص.. حدوتة طويلة حول من يسميهم أحيانا \”برابرة\”، وأحيانا \”زنوج\”، وأحيانا \”سود لون الهباب\”.. قصة مختلقة تتضمن أجواء مغامرات تجدها في أفلام عصابات نيويورك وأحياء الزنوج، مع مشاهد من الممكن أن تتواجد في حي شعبي في وسط أفريقيا، مختلطة بزبائن \”برابرة\” إصطحبهم إلي أحياء قاهرية غريبة كلها من المهاجرين الأفارقة، ولا تجرؤ الشرطة على الدخول إليها، وأموال كثيرة يخرجونها وهم بالتاكسي، وولائم من أكل عفن ينصبونها داخل سيارته.. إلخ، والخلاصة التي يريد أن يصل إليها هي: \”يا أستاذ، ريحيتهم وحشة.. لون الجلد ده بيعمل ريحة وحشة.. وهم اللي مخربين البلد.. لو السيسي ينضف البلد دي من التلاتة مليون مهاجر سوري على فلسطيني على زنجي.. كل حاجة هاتبقى تمام ونبقى أحسن بلد في الدنيا.. كل الغلا اللي أنت شايفه ده بسببهم.. عشان معاهم فلوس وبيشتروا أكل كتير.\”
ولم يكن مجديا مع السائق أن يحدثه الزبون عن أي بديهيات اقتصادية تتناقض مع كلامه، ولم يكن مجديا سؤال الزبون للسائق إن كان طرد ثلاثة ملايين سيحل مشاكل ٩٠ مليون، ولم يكن مجديا كذلك إشارة الزبون للسائق: \”بس يا أسطى.. ده أنت نفسك أسود.. ولا ما أخدتش بالك؟\”
اعتادت أمي أن تصطحبني معها في بعض مشاويرها نهايات السبعينيات وبدايات الثمانينيات.. كنا نستخدم عادة مترو مدينة نصر الذي كان يصل إلى ميدان روكسي.. “تهدني\” في اللف وشراء مستلزمات المنزل من \”ميدان الجامع\”، ونعود من جديد بالمترو المزدحم، وفي طريق العودة متعبا، وبسبب تربيتي الجيدة، لم أكن أجرؤ على التسابق للوصول إلى مقعد خال، إلا لو…. إلا لو كان المنافس المحتمل شاب ماليزي أو شابة ماليزية ممن كانوا منتشرين في مدينة نصر وقتها بسبب منح الدراسة بالأزهر.
هذا الأمر لفت نظر أمي واستغربته. وكان تبريري المنطقي هو أنهم ليسوا من هنا، ونحن أولى بالكرسي الخالي.. إحنا صحاب البلد!
تذكرت هذا المشهد حين رأيت طفلا في مدريد يبكي ويشتكي زميله في الحضانة قائلا لمدرسته: \”فلان الأسود أخد مني كذا\”.. إنزعجت وقتها.. هل هو طفل عنصري بطبعه؟ أم أن الأطفال يميزون حسب الشكل وببساطة وبسطحية، بمنطق البنت أم نضارة.. الولد التخين.. البنت الطويلة.. الولد الأسود.. إلخ؟
لم يفعل الماليزيون ما يجعلني أكرههم. لكنني لم أفهم وقتها أن على الحكومة أن تحل مشكلة المواصلات.. أن تزيد من عدد عربات المترو، وبالتالي من عدد المقاعد، لنجلس جميعا، فحينما تعاني، ولا تعرف من هو المتسبب الحقيقي في معاناتك.. لن تجد سوي هذه الجملة الطفولية لتطلقها بغضب وبعنف: \”هي البت التخينة دي، أول ما وصلت للوطن.. الهوا خلص والمكان ضاق\”.. وإن تغير شكل ومضمون الجملة.