باسل رمسيس يكتب: ستائر الأخ الأكبر.. تأملات فيسبوكية – الرابع والأخير

\”اللي يروح يشارك في قتل الشعب اليمني لصالح السعودية، يبقى ابن كلب وسفاح\”! هل كتابة هذه العبارة، هي كتابة لوجهة نظر سياسية؟ سنعود لهذا السؤال لاحقا.

سحر معبد السينما:

في النصف الأول من التسعينيات، بدأت في الظهور كاميرات الفيديو الديجيتال الصغيرة والخفيفة، بأسعار لا تقارن طبعا بالأسعار الفلكية لشراء أو تأجير كاميرات السينما. ولا تقارن كذلك بأسعار كاميرات الفيديو الاحترافية وشبه الاحترافية التي كانت موجودة قبلها.

هذه الكاميرات الجديدة الصغيرة، نالت في البداية احتقار أغلب صناع السينما المحترفون، لكن هذا الاحتقار تحول إلى حقد، وإحساس بأن هناك كابوسا يهدد السينما \”المقدسة”، خطر سينهي حياة هذا الفن السابع، أو على الأقل سيلطخه بالابتذال \”الفورماتي\”، فقد كان ملطخا من قبلها، ككل الفنون الأخرى، بابتذال بعض المواضيع، وابتذال بعض طرق الحكي والتنفيذ.

كثير من هؤلاء القلقون على الحياة المقدسة للسينما، كان منبع قلقهم هو أن هذه التكنولوجيا الجديدة – الوسيط الجديد- سينهي قدسية الأجور المرتفعة التي يحصلون عليها مقابل العمل في مجال \”مقدس\”، محرم على \”العامة\”، وحوله هالات أسطورية من الغموض والسحر، دون أن يكونوا صريحين في التعبير عن قلقهم هذا.. أما القليلون، فقد كانوا يترقبون بقلق هذا الدخول لوسيط جديد لا يعرفونه.. قلق طبيعي تجاه جودته وفاعليته، وإن كان يستطيع أن يصل لجودة الصورة كما هي في شريط السينما ٣٥ ميلليمتر.

نستطيع أن نتحدث كثيرا عن تأثير هذه الكاميرات الصغيرة على كل جوانب صناعة الفيلم، لكنه ليس موضوعنا.. نكتفي بأن نشير إلى أن أبرز تأثيرات ثورة كاميرات الديجيتال هو ما يمكن تسميته بـ \”دمقرطة\” السينما.. فتح الأبواب أمام الآلاف من صناع السينما الجدد، الذين لم يكن لهم أبدا أن يشكلوا \”أعمدة\” في هذا المعبد، كي يدخلونه ويحكون حواديتهم بأشكال مختلفة وشديدة التنوع.. هذا التحول الديمقراطي فيما يخص السينما سحب البساط بجدته وطزاجته من تحت أرجل الكثير من \”المستقرين\” في مجال الصناعة، الذي كان مغلقا وضيقا.

هؤلاء الآلاف الذين استخدموا ثورة الديجيتال، استطاعوا أن يجبروا \”أساطين\” الصناعة التقليدية على مسايرتهم، واستخدام نفس أدواتهم إن أرادوا الاستمرار في الحياة.

لم تنته السينما.. انتهى سحر صانعيها المزيف.. سحر معابدها المغلقة، ولم ينته سحر الفيلم الجيد، وكسبنا مساحات أكثر رحابة، وحرية في طرق الحكي والإنتاج والتوزيع، والأهم.. كسبنا آلاف من المبدعين الجدد الذين يشاركوننا حكاياتهم عن كل شوارع وحواري وقرى العالم.

زمن جديد وكتابة جديدة:

بدأت هذه المقالات الأربعة بالإشارة إلى احتقار بعض الكتاب والمفكرين للفيس بوك، وتصورهم بأن الكتابة في هذا الوسيط ليست بالكتابة، وكأنها كتابة منافية للكتابة، وكأن الوسيط، أو أداة الاتصال، يحددان أهمية ما يكتب، وليس فقط مضمونه وشكله وسياقه! وكأن الكتابة هي فقط الروايات والكتب والدراسات والمقالات، والقصائد المنشورة في دواوين ومجلات وجرائد \”محترمة\”!

إن كنت \”عما\” أو \”خال\” عجوزا، لك صيتك وشهرتك وسطوتك، وكتبت أي قافية تم استخدامها آلاف المرات لتهلل للحاكم أي تهليل دون أي مضمون جاد، ونشرت هذا الكلام المسمي \”شعرا\” في جريدة الأهرام، فأبياتك هي كتابة شعرية! وإن كنت واحدا من عشرات الشعراء، مفتقدي السطوة والصيت، لكنهم إنفعلوا بصدق بكل ما عشناه خلال السنوات الأخيرة، ويطورون أدواتهم ولغتهم ومضمون قصائدهم، وينشرونها ليلا على الفيس بوك، فما يكتبونه يفتقد للأهمية! ليس شعرا بالرغم من أنه شعر!

هل الملاحظات التي كتبها كاتب مهم في ورقة موضوعة على مكتبه، ولم ينشرها أبدا، وبعد موته وجدها أحدهم ونشرها، ليست كتابة؟ سيقول لك المحترفون: \”طبعا كتابة\”، سيقولون: \”هي جزء من إبداعه\”.. لماذا نعتبرها كتابة ولا نعتبر ما يكتب في صفحة شخصية على الفيس بوك ليس بالكتابة؟ هل تدوين هذه الملاحظات والخواطر واليوميات في ورقة، وتركها على مكتب يحميها من ابتذال الوسيط؟ وإن تم نشرها فيسبوكيا تفتقد في هذه اللحظة هويتها ككتابة؟ هل يفتقد المقال صفته كمقال، لأنه نشر في الفيس بوك، ولم ينشر في جريدة أو موقع إلكتروني برخصة؟

عن \”الاحتراف\”.. جملة إعتراضية وسنعود:

أتذكر هنا ملاحظة من الكاتب الراحل عبد الحكيم قاسم، وردت في كتاب رسائله المنشور منذ عدة أعوام. في رسالة لأحد أصدقائه، يتساءل عن معنى ما يسمونه \”الكاتب المحترف\”؟ هل هو من يكسب قوته عن طريق الكتابة؟ ويطور عبد الحكيم قاسم سؤاله قليلا، وقد كان وقتها في ألمانيا، مشيرا إلى أنه يكسب قوته حاليا كحارس لأحد العقارات.. فيتساءل: هل معنى هذا أنني \”حارس عقار محترف\”، وليست \”كاتبا محترفا\”، لأنني لا أكسب أموالا من رواياتي وقصصي؟

ولأن عبد الحكيم قاسم من جيل الستينيات، ينبغي أن نتذكر بأن بعض كتاب وصحفيي الستينيات والسبعينيات، أصبحوا كتابا لأن الدولة قررت تعيينهم في مؤسساتها \”الكتابية\”.

تحكم السلطة في المعابد:

هل السلطة – السلطة السياسية أو سلطة إدارة الجريدة أو الموقع أو دار النشر – هي من تقرر وتحدد من هو الكاتب ومن الذي يفتقد صفة الكاتب، ولا يحق له الإدعاء بأنه كاتب، بمجرد قرار بمنعه عن النشر؟

غالبا من يتحركون في هذه الدائرة \”الواقعية\” هم كتاب شديدي الهشاشة.

هل تحتاج كل وجهات النظر دائما، وفي كل الحالات، إلى ثلاث آلاف كلمة يتم رصها في مقال طويل، كي يتم التعبير عنها؟ هل من المفترض أن يكون الجميع كاتبا للمقالات والأبحاث الجادة والعميقة؟ لماذا ننفي إمكانية الصراع والنقاش على أي قضية بكلمات قليلة؟

لماذا ننكر على عبارة \”اللي يروح يشارك في قتل الشعب اليمني لصالح السعودية يبقى ابن كلب وسفاح\” هويتها كوجهة نظر مكتوبة؟ مع قليل من التأمل، سنكتشف أنها تحمل كل مقومات وجهة النظر، ومكتوبة. أما إن كان إعتراضك على تعبير \”ابن كلب\”، باعتباره سب، فهو اعتراض أخلاقي، لا يتصل بمضمون العبارة أو بتقنية الكتابة.

قلة الكلمات لا تنفي الجدية ولا تنفي العمق ولا هي مرادف للسطحية. أهمية كتاب من ٦٠٠ صفحة، لا تتناقض مع أهمية كتابة مكونة من عشر كلمات.. موقف أو تفصيلة أو مفارقة أو سؤال، أو حتى مجرد صرخة.. ربما يسمع أحد.

لنستعيد ما حكيناه عن الكاميرات الصغيرة الجديدة، هل يثير هذا المثال في أذهاننا أي أوجه للتشابه مع عالم الكتابة المقدس والغامض، الذي يعاني الآن من نفس القلق تجاه حالة الكتابة المشهرة لـ \”الجميع\”؟ أعتقد أنه نفس نوع القلق بكل تنويعاته تجاه دمقرطة الكتابة والرأي والتفكير والتأثير، ومن ثم الصراع.

أي متابع جيد لوسائل التواصل الاجتماعي، وبالذات الفيس بوك، يستطيع أن يراقب كيف ظهر المئات من كتاب المقالات الجدد خلال الأعوام الأخيرة.. بدأ الكثير منهم في الكتابة الفيسبوكية، قاموا بتطوير أدواتهم الخاصة ووصلوا إلى الصحافة المطبوعة، والإلكترونية التي تكاد تقتل المطبوعة، ليس فقط خلال السنوات الأربع الأخيرة بتأثير ثورة يناير الاجتماعية والسياسية، التي أطلقت طاقات جديدة ولها تأثيرات ثقافية واضحة، مثل أي ثورة حقيقية في أي بلد. فتطور الإبداع.. كل أشكال الإبداع، مرتبط دائما بحالة من الحراك والنشاط والتحول السياسي والاجتماعي. بل قبل هذه السنوات الأربعة الأخيرة، وقبل الفيس بووك، كانت هناك الكتابة على المدونات الشخصية لشباب يدونون يومياتهم وخواطرهم وأراءهم، وأيضا أخبارا لا تنشر في الصحافة، وكانت لهجة الانتقاد والإحتقار لكتاباتهم هي نفس لهجة الإحتقار والتعالي الحالية، والمفارقة أن بعض هؤلاء \”البلوجرز\”، تتسابق عليهم المواقع الصحفية المحلية والعالمية ليكتبوا \”خرابيشهم\” فيها.. في بلوج شخصي داخل الموقع الصحفي الضخم.

\”دمقرطة الكتابة\” هي حالة مرعبة في الحقيقة لـ \”المترستئين\”، فكتاب جدد يسحبون البساط من تحت أقدامهم.. يقرأ لهم في بعض الحالات أضعاف أضعاف من يقرأون الكتابة المتكلسة الميتة لبعض – وليس كل – السابقين، وهي حالة مرعبة للسلطة.. أي سلطة.

أما اللغة البسيطة، العامية في حالات كثيرة، والحية بجملها القصيرة، فقد استطاعت أن تفرض حضورها وتأثيرها على لغة الآخرين السابقين لهذه الحالة، واستطاعت أن تكون لاعبا مهما في الصراع السياسي والاجتماعي.

لم تعد أنت المنظر أو المفكر الأوحد، الذي يتأمل.. يكتب، والأخرون يتابعون ما يكتبونه ويرددونه.. لم نعد ننتظر الكلمة الفصل.. الكلمات أصبحت ملكا للجميع، ولا توجد بينها أي \”كلمة فصل\”.

الأخ الأكبر والبجاحة:

ستأتيك الشهرة بعد أن تمر بالتجربة الأولي في بيت الأخ الأكبر التلفزيوني.. سوف تستضيفك بعض البرامج التلفزيونية المتخصصة في النميمة الخاصة بالمشاهير.. من المعتاد أن تجد المشاهير الأقدم ينظرون بعدائية تجاه المشاهير الجدد، الخجولين في البداية. بعد قليل من الخبرة والحنكة، وقليل من البجاحة، يقوم بعض الجدد بالرد على المتعالين قائلين: طب أنا بقيت مشهور بسبب دخولي قفص الأخ الأكبر.. بقيت مشهور بصبري وصراعي، أنت بقيت مشهور ليه؟ أنت بقيت مشهور من غير مبرر.

هي السلطة.. أي سلطة.. ترتعب حين تبدأ في كسر جدران سيطرتها وسطوتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top