ممثل يقف علي خشبة المسرح ليلعب دورا ما، ويرتجل نكتة أو \”إفيه\”، بينما يرتجلها، اكتشف أنها سخيفة، يعرف أنها سخيفة، لكن النكتة أعجبت الجمهور، الذي قام بالتصفيق والتصفير له.. تلقى \”السوكسيه\”.. غالبا سيردد نفس النكتة في عرض المسرحية التالي، ومن الممكن أن يحاول تطويرها كي تعجب الجمهور أكثر، وينال تصفيقا أشد.. ربما مازال يراها كنكتة سخيفة، وربما يثق في جمهوره بمنطق \”الزبون دائما على حق\”، فيبدأ في الإعجاب بنكتته السخيفة.
يتردد أن أحد الكتاب من جيلي قال مرة: \”مش مهم عدد اللايكات.. الرك على عدد الشير\”.. أنا شخصيا لا استبعد أن يكون قد قالها، لأنني اعلم أنه مهووس بامتلاك الجمهور، وبتزايد حجم هذا الجمهور كل يوم.
تصفيق الجمهور للبطل/ للبطلة:
متاح لك أن تكون مجرد متابع صامت، أو أن تصل للناحية الأخرى، على النقيض.. أن تكون \”نجما\” فيسبوكيا، بين هذين القطبين هناك الآلاف من المستويات وطرق التعامل المختلفة مع هذا العالم الافتراضي.. تنويعات كثيرة نعرفها جميعا، فلا داع لسردها، لكن أيا كانت طريقة تعاملك مع الفيس بوك، أنت – في النهاية – تحتاج إلى الجمهور، وإن غاب الجمهور تماما، فغالبا لن تتواجد في هذا العالم لحظة واحدة إضافية.
لكل منا جمهوره، من يتابعونه ويشاهدونه ويصفقون له أحيانا أو دائما.. أيا كان عددهم.. شخص واحد أو آلاف كثيرة، والفضل راجع لـ \”اللايك والشير\”، وهوس اللايك والشير يبتعد أحيانا عن مجرد الرغبة في الإحساس بالقبول.. هو شئ محوري لدى البعض، ويحدد ما يفكرون فيه، والمواقف التي يتخذونها، وكيف تتطور.
لا تستهتر بتأثير التصفيق.. بتأثير الجمهور، فمن الممكن أن يساهم في تحول مواقفك – إن لم تكن ممن يعرفون جيدا ما يريدون وإلى أين هم سائرون.
اعتاد أحد الشباب من المؤثرين في تيار سياسي معين أن ينشر بعض أرائه السياسية، ومواقف تياره، على الفيس بوك يوميا، لا يمكننا الإدعاء بأنه يفتقد للقبول أو للجمهور، لكن وجوده الأصلي في الحياة السياسية كان \”كهتيف\”، فاكتشف أنه حين يكتب شعارا أو هتافا على صفحته في الصباح – في سياق جو سياسي ساخن- يكسب المئات من اللايكات والشير في دقائق قليلة، فتعود على هذه الحالة، لأنها ترضيه على المستوى النفسي، وبدأ في ممارستها، فوصل إلى حالة من حالات المبالغة المرضية – غالبا- بأن يرى على سبيل المثال مظاهرة من خمسين شخصا، فيكتب شعارا به قافية، وكأن الجماهير الغفيرة بدأت في إحتلال الشوارع والمصانع وأماكن العمل، وأقامت المتاريس، وأن إسقاط النظام مسألة أيام قليلة، بينما السيسي يكتسح في الانتخابات! (كلمة انتخابات ليست دقيقة جدا لتوصيف ما حدث، دعونا نصححها لـ \”إستفتاء\”).
ولأن الهتاف هو حالة إنفعالية بالأساس.. حالة ساخنة.. حالة تستهدف تحريض الجمهور، وليس توعيته أو الحوار معه، فكثير من هتافاتنا تفتقد للموضوعية، لكنها ضرورية وقت المظاهرة.. وقت المواجهة.
تبدأ المشكلة لو أنك عشت هذه الحالة من \”المظاهرة المستمرة\”.. \”الهتاف الدائم\”، فساعتها ستتسم مواقفك نفسها بهذه الحالة الانفعالية، المبالغة، والمنفصلة عن الواقع.
بالطبع هذا النوع من التأثر بتصفيق الجمهور وإعجابه، طفولي بدرجة كبيرة، لكن هناك تأثير آخر أهم على مستوى التوجهات السياسية للاعبين السياسيين، سواء جماعات أو أفراد، فالفيس بوك يمنحك هذا التواصل الدائم والمباشر مع جمهورك، وتستطيع أن تقيس وتعرف مزاج هذا الجمهور.. شكواه الأساسية، درجة سخونته، ومدى تقبله لخطابك السياسي، فتعدل به تدريجيا. في حالة أن تكون واعيا بمن هو جمهورك وبطبيعته، دون إنكار أن نجوم الفيس بوك مثلهم مثل نجوم المسرح.. بعضهم يتفاعل، وبعضهم يحتقر جمهوره، رغم معرفتهم بحاجتهم إليه وإلى تصفيقه، إلا أن النجومية ليست حالة فردية دائما، ليست حكرا على الأشخاص وفقط، هي أيضا لتيارات سياسية تأتي لحظة ما كي تتحول إلى موضة، وتنتهي الموضة، إن لم يستطع هذا التيار الاستفادة الحقيقية من لحظة النجومية. وجميعنا نعرف حالات من هذا النوع، لكن حتى في حالات فشل استثمار الموضة سياسيا، فإن نقل الخطاب السياسي من الفضاء الإلكتروني/الافتراضي إلي ساحة الصراع السياسي المباشر في المواقع، أيا كانت المواقع، والعودة بالخطاب بعد تطويره ومناقشته، وتحليل نتائجه ودروسه جماعيا وبشكل مفتوح في الفضاء الافتراضي مرة أخرى، هي عملية تفاعل إيجابية تحدث كل يوم، وجميعنا لدينا أمثلة كثيرة عليها خلال السنوات الأربعة الماضية.
الأخد والعطا:
كانوا يعلموننا في معاهد السينما أن من شروط الفيلم الناجح أن يكون المخرج واعيا لمن يتوجه، ويعرف جمهوره المستهدف بشكل محدد، ويعرف كيف يحدثه.
سأتجاهل هنا مسألتي اللغة والكتابة، لأنهما محور الحلقة الرابعة من هذا المقال، دعنا نراقب الإعلانات التلفزيونية، اختار أكثرها سخافة من وجهة نظرك، وتأمله، ستكتشف أنك لست من الشريحة المستهدفة، فشركة الإعلانات وعميلها صاحب المنتج، يعرفون غالبا الشريحة المستهدفة، ويعرفون أن أغلب من سيقررون أي نوع من السمن سيتم استخدامه في المنزل يحبون هالة فاخر التي لا تطيقها أنت، ويثقون بها، فتختار شركة الإعلانات هالة فاخر كي تخبرهم بأن سمن “كريستال” هو الأفضل.
مثال مضاد على التواصل الفيسبوكي \”الضال\”، الذي فقد طريقه: تريد أن تهاجم وتشهر بالإخوان المسلمين وتاريخهم.. تتلقي الآلاف من \”اللايكات\”، وتتصور أن رسالتك قد وصلت للشباب الثوري الذي كنت تستهدفه، بينما السعداء بما كتبته ويقومون بنشره وترويجه هم \”السيساوية\”.. الفئة التي لم تستهدفها أصلا. أنت غير واع بأن الرسالة فقدت طريقها لأنك لا تنظر بترو ودقة لقائمة أصدقائك ومتابعيك.
الأخد والعطا /الرايح والجاي/ استجابة الجمهور لرسالتك والتفاعل معها.. يسهل قياسها في حالة الإعلان، عن طريق حجم المبيعات والشرائح الاجتماعية التي استجابت للرسالة الإعلانية، رغم أنها تتطلب بعض الوقت، وبالذات في السلع مرتفعة الثمن، المعمرة، مثل السيارات، وببعض الدقة يمكنك أن تعرف ملاحظلاتهم على هذه الرسالة الإعلانية وعلى المنتج، وكيف يجب تطويرهما.
لكن.. هل تعلم كم كانت تستغرق عملية \”الأخد والعطا\” المتعلقة بالخطاب السياسي الذي تطلقه التنظيمات السياسية، على الأقل حتى نهايات التسعينيات؟ تكتب المجلة أو الجريدة.. تطبعها.. تبدأ في توزيعها.. تدخل بعض البيوت القليلة، تغيب عندهم حتى تقرأ – إن قرأت – وبعدها تأتي بعض ردود الفعل، القليلة غالبا، إن أراد من قرأ أن يتفاعل معك، ويرسل إليك بملاحظاته وأرائه.. هل تعرف كم كانت تستغرق هذه العملية من جهد ووقت؟
كانت تحتاج أحيانا شهورا طويلة وجهود الكثيرون، ولا يتعلق هذا البطء بالتقصير أو الكسل أو بقلة الخيال.. كان الإيقاع المتاح في وقته، وقد انتهى، وتستطيع أن تقارن بين هذه الحالة السابقة والحالة الحالية في إرسال الرسالة السياسية، تلقيها، والتفاعل معها وتطويرها خلال ساعات قليلة.
ستقول إن هذا الإيقاع البطئ كان محصورا على المنظمات السرية.. غير صحيح.. هل كانت الإدارة السياسية التي تقف وراء جرائد مثل الأهالي، أو الوفد، أو الشعب، مهتمة أصلا بدراسة الفعل ورد الفعل؟! إن كانت قد اهتمت، لم تكن لتصل إلى ما هي عليه اليوم.
أما فيما يتعلق بما هو \”سري\”، فسأحكي لك جزءا من تجربة شخصية: في عام ١٩٩٥ \”أدخلوني\” في لجنة إعداد مجلة تنظيم شيوعي سري، وكلمة \”أدخلوني\” المنسوبة لفاعلين مجهولين مقصودة جدا.. حدثت محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا.. قررنا أن يكون المقال الإفتتاحي عن هذه المحاولة ودلائلها وما ستنتجه على مستوى أداء السلطة، وكان غلاف العدد عبارة عن كولاج، صورة لمبارك مقطوعة لعدد من الأجزاء، مع مسدس موجه إليها.
وإن كنت أتذكر جيدا فقد كان هناك عنوان عريض يقول \”يسقط نظام مبارك\”.. مر شهران بين محاولة الاغتيال وصدور العدد الذي يتناول حادثة لم تعد تهم القارئ كثيرا، ومرت عدة شهور أخرى حتى وردت من أصدقاء التنظيم ردود الفعل الأولى الرافضة للغلاف، لأن من الممكن فهمه كتحريض على الاغتيال.. على العموم، فقد كنت تركت التنظيم، فلم أتلق ردود الفعل أصلا.
دون أي مبالغة في دور الفيس بوك، ودون أي دفاع عنه، ومع تجنب التورط في المناقشات الجادة حول تخديمه على بعض الأجهزة المخابراتية.. إلخ. نستطيع أن نقول سياسيا: \”شكرا عزيزي فيس بووك\”.
يتبع