باسل رمسيس يكتب: ستائر الأخ الأكبر.. تأملات فيسبوكية (2)

امرأة ثلاثينية إسبانية نشطة فيسبوكيا، تنشر أدق تفاصيل حياتها دون أن تفكر ثانيتين، أو تتردد فيما تكتبه.. تعمل على \”خط ساخن\”، تستقبل مكالمات الراغبين في حوارات جنسية. لديها صوت ناعم ومثير، فترد على مكالماتهم وهي في بيتها.. تثيرهم.. تجعلهم يحلقون في تجربة جنسية فاجرة، يمارسون عاداتهم السرية وهم يستمعون لصوتها ويتخيلون ما تقول أنها ستفعله معهم – افتراضيا- بالطبع. بينما تمارس هي في نفس هذه اللحظات حياتها العادية.. تطبخ، تنظف، أو ترضع واحدا من طفليها التؤمين.

حولت صفحتها علي الفيس بوك لأداة سخرية من هذا العمل نفسه، بنشر بعض هذه الحوارات فيما بعد، وتنشر أيضا صورها ليعرف الآخرون أنها ليست جميلة كما يتخيلون، لكنها تملك نهدين هائلين تعريهم أمام الكاميرا، لترضع التوئمين معا في نفس الوقت، غامزة للزبون.. \”هذا الصدر ملكهما وفقط. أما أنت فلا تملك سوى الفانتازيا مستحيلة التحقق\”.

الحقيقة والفانتازيا:

قبل انطلاق برامج الأخ الأكبر بشهور، ظهر في دور العرض السينمائي فيلم \”ترومان شو\” لبيتر واير، لا يناقش الفيلم هذه الفكرة التلفزيونية في العرض المستمر وغياب أي خصوصية مثلما يبدو من مشاهدته الأولى. بل إنه يتأمل أبعد من ذلك.. يتأمل في مسألة الحرية والحياة والمشاعر المصنوعة والمزيفة بالكامل، ويتأمل أيضا في هذه العلاقة بين الثالوث الخالد للأبد.. الكاميرا والشخصية والمتلقي.

ربما لم يخطر على بال \”بيتر واير\” أنه بعد شهور من النجاح الكبير الذي حققه فيلمه، سوف يكون أحد منابع الإلهام لبعض صناع التلفزيون لعمل برامج مستوحاة من القراءة السطحية لفيلمه.

\”الأخ الأكبر\” – البرنامج – والأخ الأكبر الفيسبوكي، لا يعتمدان على الخيال، أو على حياة وقصص مزيفة، بل إن مادتهما الأساسية هي الواقع، الحقيقي – وإن كان مجردا جزءا تم تجميله من هذا \”الحقيقي\”- فجميعا نعلم بأننا حين نقف أمام الكاميرا، أو حين نتحدث أمام الآخرين، نحاول أن نبدو أكثر جمالا، وجاذبية، وذكاءا، وغموضا أيضا.

أحد الأصدقاء ممن يعملون في السينما والمسرح، يرفض أن نضع على صفحات الفيس بوك صورا تجمعنا به! لم يقل لنا أبدا عن السبب.. هو لا يكره الصور، بالعكس، فإنه دائما ما يتحول إلى مهرج حين نخرج كاميراتنا وتليفوناتنا المحمولة كي نلتقط الصور، لكن.. إن تأملت صفحته، ستكتشف أن غياب الصور الشخصية عليها، والمنشور عن حياته، يمنحانه ما يبحث عنه من غموض. والغموض يخلق الإنجذاب.

في بيت الأخ الأكبر التلفزيوني ليس هناك أي ستائر.. فقط كاميرات مثبتة في كل مكان، ولا تستطيع أن تتجنبها.. جدران زجاجية تعكس صورتك، وأنت لا تعلم من هم هؤلاء الذين يصورونك من وراءها، أو من يشاهدونك، لكن الفيس بوك يمنحك الحرية، يمنحك كل الستائر الممكنة، ويقول لك بوضوح من اللحظة الأولي: \”استخدم من الستائر ما شئت.. تستطيع أن تستخدمها كلها ولن يعرفونك، أو احرق كل ستائرك، وحين تريد إستعادتها كلها أو بعضها.. تستطيع أن تفعل ذلك فورا\”

البوح والكلام:

ما هي أزمة \”يحيي\” بطل فيلم \”أرض الخوف\” لداود عبد السيد؟ هل هي مجرد فقدان الاتصال بقياداته؟ هل نضيف إليها شكه في جدوى ما يفعله؟ هل نضيف أيضا أزمة هوية؟ إنه أحيانا لا يعرف إن كان هذا المجرم مهرب المخدرات أم ضابط البوليس الشجاع؟ اعتقد أن أحد أزمات \”يحيي\” هي أنه لا يعرف إن كان هناك من يسمعه.. يتحدث.. يكتب، ويبعث الخطابات.. لكن هل هناك من يقرأ؟

صديقة ستينية تعيش بمفردها منذ سنوات طويلة، مانعت في البداية – مثل أغلبنا- في الدخول إلى عالم الفيس بووك، لكنها في النهاية قامت بعمل حسابها الشخصي.

قالت مرة بعد بضعة شهور، إنها حين تعود لبيتها ليلا وتفتح الفيس بوك، تشعر بأنها ليست بمفردها.. تخف وطأة الوحدة تحت تأثير قراءة ما يكتبه الآخرون، التطلع لصورهم، تأمل ما ينشرونه، والحوار معهم، ومشاركتهم فيما يخصها.

التواصل هو كلمة السر في هذه الحالة. قتل الوحدة والكلام والتفاعل مع الآخرين. لكنها ليست الدافع الوحيد، ربما نجد هناك دوافع أخري، مثل \”البطولة\”.. أن تكون محور الاهتمام/البطل. وبعدهما تأتي في أغلب الحالات الرغبة في التلصص والفضول.

هي المفردات أو الرغبات التي تحركك غالبا في علاقتك بالفيس بوك.. لا ادعي بأن هذه \”الشهوات\” الأربعة \”البطولة، التواصل، التلصص، والفضول\” هي الملخص \”الوافي\” والنهائي لما يحركنا في عالم الفيس بوك.. هي بعض الدوافع الأساسية، لكنها ليست \”كل\” الدوافع.

هذا الشاب الذي يمتلك البطولة عبر تواجده في القفص الزجاجي التلفزيوني للأخ الأكبر، ويشعر بأنه مهم، لأن الآخرين يرونه ويراقبونه ومهتمون بما يفعله أو يقوله، يتعب أو يمل أحيانا، فيدخل غرفة الاعتراف أو العزلة المؤقتة ليتحدث ويفضفض مع شخص واحد.. مع الأخ الأكبر. أما الفيس بوك فإنه بالإضافة إلى الستائر التي لا يمنحك إياها بيت الأخ الأكبر التلفزيوني، فأنه أيضا يمنحك غرفة \”الشات\”، الرسائل الخاصة.. في أن تتحدث أحيانا مع \”آخر\” لا تعرفه، ولم ولن تقابله أبدا.. بعض المتابعة لهذا الشخص، والتلصص عليه، كافيان لتشعر ببعض الأمان والثقة، فتحكي له عن أدق تفاصيل حياتك، وتستشيره فيها، وربما تتعري تماما، وتحكي ما لا يعرفه أحد عنك.

والتعري يقود للمشاركة، هي دعوة كي اتعرى أنا أيضا، أو أبوح وأحكي، ونتشارك.

هل نستطيع أن نقول إن درجة الرغبة في البوح، في الكلام، تتناسب طرديا مع درجة الكتمان والكبت قبلها؟ غالبا نعم.

عشت عن قرب تجربة حركة ١٥ مايو في إسبانيا، شاركت في احتلال ميدان من الميادين، وفي واحدة من لجان الأحياء المفتوحة التي بدأت بعد إخلاء ميدان \”باب الشمس\” في مدريد.. كانت هذه الاجتماعات الأسبوعية مفتوحة لأي مواطن عابر يريد أن يشارك بها.. يستطيع أن يطلب الميكروفون في دوره ويتحدث، والآخرين يسمعونه.. بعضهم كان يأخد الميكروفون ويبدأ في الاسترسال طويلا في خطاب شخصي غاضب. وحين تتأملهم تكتشف أن كثيرين من بيننا، كان لديهم مجرد الرغبة في الكلام، في أن يسمعهم أحد، ويهتم بما يقولونه، لأن \”الكلام السياسي\” كان حكرا على محترفي السياسة وقليلا من المناضلين السياسيين قبلها.

بعد قليل إنحسرت ظاهرة \”الكلام من أجل الكلام\”.. تم تفريغ الشحنة المتصلة بهذه الرغبة.

ماذا عن حالتنا المصرية؟ عن مجتمعنا المكبوت خلال عقود وقرون دون \”كلام\” في أي من التابوهات الكثيرة التي فرضت مجتمعيا وسياسيا وتحاصرنا من كل اتجاه؟

هل تستهتر بقيمة وأهمية أن فتاة شابة في مجتمع محافظ ومغلق وفقير تشهر رغبتها في خلع الحجاب وتدعو الآخرين لأن يحاوروها في هذه الرغبة؟ أو بشاب يصارح أصدقاءه والآخرين بأن الرغبة في الانتحار تراوده من حين لآخر؟

يتبع

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top