باسل رمسيس يكتب: ستائر الأخ الأكبر.. تأملات فيسبوكية (1)

ستجد من تسمي نفسها \”شمس النهار\”، أو من يسمي نفسه \”ثائر للأبد\”، ولن تعرف عنهما أي معلومة حقيقية، ولن تعرف أبدا لماذا هي الـ “شمس”، وما دلائل أنه “ثائر للأبد”، وعلى الناحية الأخرى، ستجد من يحكون علانية وبوضوح، تفاصيل حياتهم الجنسية أو تفاصيل أي جانب آخر من حياتهم الشخصية.

ربما يكون الفيس بوك من أكثر العناصر الحاضرة في الحياة اليومية للكثيرين.. يتم الحوار حوله ونقاشه ورفضه أو قبوله دون أن نعي في أغلب الوقت أننا نمارس هذا الحوار أو النقاش، فبعيدا عن القليل من الكتابات الجادة حول الفيس بوك كأداة تواصل، وبعيدا أيضا عن الكلام التافه الذي استسهل وصف ثورتنا بأنها ثورة الفيس بوك.. بمجرد دخولك على صفحتك الخاصة في أحد الأيام لتلعن الفيس بوك واللي عمله، أو تمدحه.. فأنت مشارك في حوار ونقاش غريبين حول دوره.

من حين لآخر يعلن بعض المفكرين والكتاب اليساريين، احتقارهم للفيس بوك وللكتابة فيه، مرددين ما يعتقدونه بأن الكتابة الفيسبوكية ليست كتابة. وأن الكتابة الحقيقية \”الجادة\” هي كتابة المقالات والدراسات والكتب، وليس مجرد \”إستاتوس\” على الفيس بوك، ويربطون دائما ما بين الفيس بوك والشتيمة، رغم أن الكتابة البذيئة، أو الشتّامة، أو الحادة، هي نوع من أنواع الكتابة المتأصلة منذ قرون، وليس لها أي علاقة بالفيس بوك ابن إمبارح، الذي مازال يحبو. ويتجاهلون طبعا أن أغلب إنتاح العالم من الكتب والمقالات والدراسات هو إنتاج تافه وردئ.

منذ أيام قليلة، وفي سياق تقديمه لكتابه الجديد بأحد البرامج التلفزيونية، تحدث \”فيرناندو بايسبين\” الباحث الإسباني، والذي لا ينتمي لليسار، وكان يشغل منصب رئيس مركز البحوث والدراسات الاجتماعية الإسباني، عن أهمية الفيس بوك وشبكات التواصل الاجتماعي ودورها السياسي، فقال: \”الصراع السياسي يدور ويتطور أيضا في شبكات التواصل الاجتماعي، ومن يتجاهل هذه الأداة في التواصل والصراع سينتهي خارج الحلبة، يتكلس ويهمش وينتهي\”.

اكرر أنه قال \”الصراع السياسي\”، وليس \”الصراع الاجتماعي والطبقي\”. حتى لا ندخل في حوار حول الصراعات الاجتماعية وشكلها، وأنها تدور فقط في ساحات المصانع وبين المزارع.. إلخ، فهذه القصة ليست موضوع المقال.

لماذا وضعت وجهتي النظر في مواجهة بعضهما؟ وجهة نظر بعض المفكرين اليساريين والماركسيين في مواجهة وجهة نظر باحث لا ينتمي لليسار، لكنه جاد؟

لأنه من المفترض – نظريا – أن انتمائك للفكر الماركسي يمنحك أدوات للتحليل تستطيع عن طريقها فهم التطورات الاجتماعية، وامتلاك تصور لتطور المجتمعات، بكل ما تحمله هذه المجتمعات من عناصر. وشبكات التواصل الاجتماعي في الزمن الذي نعيشه تلعب دورا في غاية الحضور والأهمية، للدرجة التي لا يمكن تجاهلها.

والمفارقة هنا أن حالة التعالي والاحتقار من طرف من يملكون هذه الأدوات للتحليل، الأدوات الماركسية، تشير إلى أنهم لم ينتبهوا لدور الفيس بوك وأهميته وتأثيره، ولم يكرسوا ولو بعض الوقت في تأمله، وبالتالي فإن وجهة النظر \”اليسارية\” ليست دائما هي وجهة النظر \”العميقة\”، \”المستشرفة\”، مثلما كانوا يؤكدون لنا أحيانا في تنظيماتنا الماركسية السرية.

المفارقة الأخرى هي أن هؤلاء المفكرون والكتاب ممن لم يحاولوا تأمل وفهم هذه الحالة الفيسبوكية الفريدة في الكتابة والتفاعل، بكل تنويعاتها غير النهائية، قد استفادوا كثيرا على المستوى الشخصي أو العملي أو السياسي من وجودهم في عالم الفيس بووك، وبعضهم لم يكن ليعرفه أو يقرأ له سوى عشرات قليلة من الأشخاص، لولا الدور الذي لعبه مرتادي عالم الفيس بوك في تسويق كتاباتهم وأرائهم.

هذا المقال – من عدة حلقات – لا يستهدف حصر أهمية وفوائد الفيس بوك، فجميعنا نستطيع أن نعدد هذه الفوائد الشخصية أو العامة من حالة “الفاترينة” الفيسبوكية. وهو كذلك لا يستهدف التنظير حول الفيس بوك، بل هو مجرد قليل من التأملات في الحالة الفيسبوكية.

هاني درويش:

كانت المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذا الشئ الجديد والغريب المسمي فيس بوك في صيف ٢٠٠٦.. ربما يكون قبل هذا التاريخ أو بعده بقليل، لكنني اتذكر هذا المساء جيدا.. كان الصديق الكاتب والصحفي الراحل هاني درويش هو صاحب هذه \”البشرى\” عن شئ جديد اسمه \”العالم الافتراضي\”، وعن الفيس بوك تحديدا، أخذ يحدثنا عنه وعن بعض تفاصيله، وكيف تحولت الصفحة الشخصية لشاب متوف لمتحف دائم يخص مراحل حياته المختلفة، عبر كل ما ينشره أصدقاؤه من صور وتعليقات وحواديت عنه، كي يجعلونه حاضرا بينهم. وحكي عن بعض ما ينشره هؤلاء القليلين ممن كان لديهم حسابات فيسبوكية وقتها، ونحن نستمع إليه مدهوشين، حتى قلت لهم صارخا: \”إنه الأخ الأكبر\”.

الأخ الأكبر:

الأخ الأكبر المقصود هنا ليس الأخ الأكبر الوارد في رواية \”١٩٨٤\” لجورج أورويل، لكنه مستوحى من هذه الرواية.

الأخ الأكبر في رواية أورويل لديه عيون في كل مكان تراقب المواطنين.. يحاكمهم ويعاقبهم بمجرد أن تولد في ذهن أيا منهم فكرة متمردة تتعارض مع سطوته المطلقة.. هو لا ينتظر فعل التمرد، الجريمة المكتملة هي مجرد التفكير.. الأخ الأكبر هنا هو السلطة الموجودة في كل مكان، والتي لا تحترم أدق خصوصيات المواطن.. هو كابوس الشمولية، سواء كانت الفاشية أو أي نظام شمولي ديكتاتوري آخر.

بعد عقود من صدور الرواية ووفاة جورج أورويل ظهر \”الأخ الأكبر\”، الذي كنت أقصده ليلة \”بشرى\” المرحوم هاني درويش، تحويرا لفكرة الأخ الأكبر الأصلية وتعديلا عليها، هي برامج تلفزيونية بدأت في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، وخلال سنة واحدة انتشرت في العشرات من البلدان.. هي برامج \”رياليتي شو\”، حيث يتم اختيار مجموعة من الأشخاص، غالبا شباب، من نوعيات مختلفة، كي يتشاركوا في بيت \”زجاجي\” خلال عدد من الأسابيع.

من الداخل تبدو أغلب الجدران كمرايا، لكنها ليست مجرد مرايا، فخلفها يقف العشرات من المصورين بكاميراتهم التي تلتقط كل التفاصيل لمدة ٢٤ ساعة يوميا.. لا توجد أي خصوصية، فقد اخترت أنت، بإرادتك الحرة، أن تدخل هذا القفص الزجاجي وأن تشارك الآخرين في أدق تفاصيلك. الخصوصية الوحيدة المتاحة، لكنها محدودة، هي أن تدخل غرفة الاعتراف، لمجرد أن تبتعد قليلا عن صخب شركائك في المنزل، أو لتتحدث للأخ الأكبر وتفضفض معه.

الأخ الأكبر متمثل في الصوت الذي يظهر فقط، كي يذكرك ببعض القواعد، أو يناقشك في قرار، أو تطلب منه شيئا فيمنحه لك أو يرفض. يبدو ديمقراطيا بعكس الأخ الأكبر الأصلي في رواية أورويل.

ملاحظة عابرة هنا، ربما تفيد في التأمل: بناءا على الأديان الثلاثة، فإن ظهور الله الأول للإنسان كان عبر الصوت.. عبر الكلمة.

ساعات البث التلفزيوني لا تغطي كل ما يحدث في برامج الأخ الأكبر، لكن القائمين عليها، ومخرج البرنامج الذي هو صاحب صوت الأخ الأكبر في هذه الحالة.. لديهم المادة الكافية كي يقوموا ببثها إن أرادوا.

على سبيل المثال ربما يؤكد أحد المشاركين أمام الجمهور بأنه لم يضاجع زميلته، فينشر الأخ الأكبر ساعتها مادة مصورة للقائهما الجنسي!

أما الجمهور فقد كان مدهوشا وبأفواه مفتوحة في بداية هذا النوع من \”الرياليتي شو\”، مثلما كنا هذه الليلة مع هاني درويش نستمع لما يحكيه. وكانت هناك بعض القنوات تقدم ٢٤ ساعة بثا حيا من بيت الأخ الأكبر! وكان بعض الجمهور يتابع بالساعات هؤلاء المشاركين في هذه المغامرة وهم نائمون، يشخرون، يمارسون الجنس، أو وهم يطلقون بعض الغازات من بطونهم!

لكن المشاهد، الذي يقرر من الفائز، والذي هو أيضا “أخ أكبر”، لا يستطيع أن يتابع للأبد نفس المنتج.. يصيبه الملل، فتم تدريجيا الاكتفاء بمونتاج يلخص أهم ساعات الأسبوع.. عراك بين فلان وفلان، منافسة شرسة، قصة حب جديدة، حالة خداع مشاعري، علاقة عابرة… إلخ.

ظهر المئات من هذه البرنامج في أوروبا وأمريكا الشمالية وبعض مناطق آسيا وأمريكا اللاتينية، لكن المتفرج، الذي يراقب من عين الأخ الأكبر، أراد الجديد، فجاء الجديد.. برامج الأخ الأكبر للمشاهير.. برامج الجزر المنعزلة التي يتم الصراع فيها على البقاء والنجاة.. برامج الأقفاص الزجاجية التي تنصب في بعض الأماكن العامة ليعيش فيها أحدهم ويتم البث من حولها.. برامج التعايش بين ذكر وأنثي عاريين في مكان معزول مع سؤال مفتوح: \”هل سيتحابا بينما الكاميرات والأخ الأكبر يراقبهما؟\”

وعندما تطور \”فورمات\” الأخ الأكبر لتنويعات مختلفة، اكتشف هنا، على ما أعتقد، مؤسسي الفيس بووك أن جميعنا بحاجة للفاترينة.. بحاجة إلى أن يراقبنا ويشاهدنا الأخ الأكبر/ الجمهور، بحاجة لأن نكون أبطالا ولو لبعض الوقت في حلقات الأخ الأكبر الخاصة بنا، فاطلقوا الفيس بووك.

يتبع

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top