آلاء الكسباني تكتب: بائعات الهوى.. ما بين الواقع والفن المصري

\”نبيع الهوى ونشتري قهرا\”.. كان هذا عنوان لتقرير قرأته منذ فترة, عن حياة بائعات الهوى في مصر, تناول أكثر من قصة لنساء امتهن البغاء كوسيلة لكسب العيش.

حين قرأت هذا التقرير, أحسست بالعجز يملأ روحي, وبالقهر يستشري في قلبي, وبأنفاسي تزداد ثُقلا, وبغصة تعتمل في حلقي, حاول عقلي أن يُكذب التقرير بكل ما أوتي من قوة, فقد كانت القصص صادمة جدا, لكنها مع الأسف واقعية للغاية!

ظللت أفكر فيه لأيام ولم استطع إخراج حرفا واحدا منه من رأسي لمدة ليست بقصيرة، فقد أيقظ التقرير في رأسي العديد من الأسئلة التي لم أجد لها إجابة شافية, تساءلت مرارا, لماذا يُصر المجتمع على أن يُربينا على كراهية بائعات الهوى؟ ولماذا يُصر على تصدير صورة العاهرات الغانيات الغارقات في الفواحش عن طيب خاطر ورضا إلى عقولنا عن طريق السينما والإعلام؟ لماذا يُصر على احتكار اصدار الأحكام على الخير والشر في الإنسان؟! لماذا لا يروي لنا الجانب الآخر من القصة؟!

ولأن الفن وحده هو من علمني الفرق بين بيع الهوى والعُهر, علمني أن العُهر في الأخلاق والعقل أشد سوء من عُهر الجسد.

من هنا كان قراري في أن أكتب هذا المقال, لأنقل لك عزيزي القارئ نماذجا من الفن المصري نجحت في أن تنقل لنا صورة معاكسة عن التي شكلها المجتمع الشرقي في وعينا منذ الصغر.

(1)

كان أول عهدي بدور العاهرة في السينما المصرية, في فيلم \”القاهرة 30\”, عشقت هذا الفيلم من أول مرة شاهدته فيها على الشاشة الفضية الصغيرة, بالأخص إحسان التي قامت بدورها الفاتنة سعاد حسنى.

إحسان فتاة في عمر الزهور, جمالها آخاذ، لكن يلتهمه الفقر والحاجة, يتعلق في ذيل فستانها عدد كبير من الأخوة , تعنفها أمها ليل نهار حتى تتخلى عن حبيبها, الشاب الثوري الفقير ولتحاول أن تبحث عن رجل غني لتُوقعه في شباكها لينتشل أسرتها من البؤس المدقع.

يُربكها بكاء أخوتها من أجل الطعام, ويراودها عن نفسها كلام أمها, ويُزيد من بؤسها الهوة الثقافية بينها وبين حبيبها الثوري, فهو دائما ما يُحدثها عن مشاكل مصر وعلى ثورة الجياع, و هي لا يهمها سوى قوت يومها وقوت أخوتها.

تتعرف إحسان على رجل غني ذو نفوذ قوي – أحمد مظهر- , وتسلمه نفسها مقابل أن تنتقل عائلتها إلى الغنى والرفاهية.

تظل إحسان على علاقة بالرجل الغني حتى بعد أن تتزوج من موظف بسيط \”عبدالدايم\”, الذي تزوجها وهو على علم بعلاقتها بالباشا، طمعا في مركز مرموق.

تختلف بائعات الهوى عند نجيب محفوظ عن أي بائعات هوى في الفن المصري, حيث ينقل نجيب الواقع بصورته الحقيقية البائسة ويواجهنا بها, يعريها من أي محاولة لتجميلها ويضعها أمامه كما هي, بحلوها ومرها.

حين تقرر مشاهدة \”القاهرة 30\”, يجب أن تشاهده بقلبك تارة وبعقلك تارة, فحين تشاهده بقلبك ستتعاطف مع إحسان كثيرا, وستتيقن من أنها لم تبع جسدها بمحض إرادتها, بل إن ظروف المجتمع وبؤسه هو ما دفعها لذلك, أما حين تشاهده بعقلك سترى الرمزية التي غلفها محفوظ بقصة الفيلم, وستري أن العُهر عُهر الخُلق والعقل وليس عُهر الجسد, فـ \”عبدالدايم\” –صاحب أكبر طز في تاريخ السينما المصرية- مثال واضح على هذا, يبيع عقله ومبادئه وحتى كرامته من أجل وظيفة وحفنة من الجنيهات.

(2)

يجلس رسامون شباب في مرسم صغير, في الخلفية صوت سعاد ماسي الحنون يشدو, \”غير أنت.. ياللي سكنت قلبى\”, يعبث يوسف – أحد الرسامين- بالألوان، لا يعرف ماذا يرسم, يدلف صديقه إلى المرسم ومعه فتاة شديدة الجمال, بائعة هوى, تجلس على حافة السرير وتبدأ في خلع ملابسها, معطفها وحذائها وجواربها, وحين همت بخلع الباقي أوقفها يوسف صائحا: \”خليكي زي ما أنتي\”

يبدأ يوسف برسمها في نفس وضعها بسرعة فائقة, ملونا شفاهها ووجنتيها بحمرة خفيفة, ثم يعطيها البورتريه, فتمعن النظر فيه وتبكي.. تبكي بكاء شديدا, ثم تجمع ما خلعته من ثيابها وتهم بالخروج, يوقفها يوسف واضعا مبلغا كبيرا من المال في يدها, فترفضه وتهم بالرحيل, فيوقفها مرة أخرى مُعطيا إياها البروتريه, فتأخذه وتخرج باكية.

إنها الجميلة, منى حلا في فيلم \”بالألوان الطبيعية\”.

بالرغم من أن المشهد صغير للغاية, وأن دورها في الفيلم لا يتعدى هذه الدقائق المعدودات, إلا أنه يقول الكثير, وكان له أكبر الأثر في نفسي.

نجح الكاتب هاني فوزي في أن يُدخلنا في أغوار نفس بائعات الهوى من خلال هذا.. جعلنا نرى كيف ترى نفسها, وضعها أمامنا وأمام نفسها في بورتريه, جعلها تُدرك كيف يراها الناس, غانية بملابس فاضحة تعلو وجهها نظرة إغراء, أنثى متغنجة قوية بأنوثتها, لكنها في الحقيقة ليست كما يراها الناس, ليست قوية، بل هي أضعف من تماسُكها الواهي, وليست عاهرة!

يتحدث باولو كويلو في روايته \”إحدى عشرة دقيقة\” عن بائعة هوى تُدعى ماريا, يُصادفها رساما يوما ما في حانة ويطلب أن يرسم لها بورتريه, وتوافق, لكن ما لبث أن بدأ الرسم، إلا وأحست بعدم الإرتياح, فقد

\”كان الرجل يرسم, وكلما تقدم في عمله فقدت ماريا حماسها وشعرت أنها تافهة, عندما دخلت إلى الحانة كانت امرأة واثقة في نفسها, وقادرة على اتخاذ أي قرار حساس, تمتهن مهنة تُدر عليها مالا وفيرا, أما الآن، فهي تشعر بعدم الأمان, وهذا شعور لا تستطيع عاهرة أن تجيزه لنفسها.

وأخيرا, أدركت ماريا سبب استيائها, فاللمرة الأولى منذ أشهر عديدة، ينظر إليها أحدهم ليس بوصفها آداة لذة أو حتى امرأة, بل بطريقة لا يمكن إدراك كنهها\”

يقول كويلو على لسان \”ماريا\”:

\”للمرة الأولى يرى رجل، روحي ومخاوفي وضعفي وعجزي عن مواجهة عالم أتظاهر بأنني أتحكم به, بينما لا أعرف عنه شيئا\”

\”لو طلب مني أحدهم أن أروي قصة حياتي, لقلت إنني لا أرى نفسي امرأة مستقلة وشجاعة وسعيدة, لا أملك في الحقيقة شيئا من هذا, لقد حُرمت من أن اتلفظ بالكلمة الوحيدة التي تستطيع أن تكون بديلا عن الإحدى عشرة دقيقة, وهي الحب.. لأجل هذا وبخلاف كل الظنون, فإن ما أحياه وأفعله وأكتشفه لا معنى له, آمل أن تمر هذه الفترة بسرعة لأتمكن من استعادة البحث عن ذاتي والالتقاء برجل يتفهمني\”

استطيع أن أجزم أن هذا ما دار بخلد بائعة هوى فيلم \”بالألوان الطبيعية\”، حين رأت نفسها في البورتريه.

(3)

مسلسل ثري للغاية ومليء بالشخصيات المعقدة, يتناول البحث عن الله والطريق إليه بشكل مختلف تماما عما عهدناه في أغلب الأعمال الفنية, رجل إنجليزي على شفا الانتحار يرحل إلى الشرق, فيجد الطريق إلى الله ويحبه ويُسلم ويختار اسم \”عبدالقادر\” لنفسه, ليُعرف بين المصريين باسم \”الخواجة عبدالقادر\”.

يحمل الخواجة على عاتقه نشر رسالة الله بين عباده الخطاءين دون قصد منه, فيدعوهم إلى طريق الله, وممن دعاهم, شهاوية أو سماح السعيد..

شهاوية بائعة هوى تعيش في \”عشة\” صغيرة على أطراف قرية صعيدية, تهوى رجلا واحدا فقط –أخو عمدة القرية- لكنها تبيع الهوى لحاجتها للطعام والشراب, تتعرف على الخواجة، فيرشدها إلى طريق الله, ويحثها على التوبة, فتقول له: \”طريق ربنا واعر قوي يا خواجة\”، لكنها تُصر على مقاومة الفحشاء والسير في طريق الله, فنرى كيف يمتحنها الله مرة تلو الأخرى حتى تصدُق توبتها, تعيش أياما بلا طعام, وحين يطرق بابها رجل معه طعام, توهمه بأن لديها مرض جلدي معد حتى يأخذ طعامه وماله ويرحل.

وكما فعل كاتبنا الكبير نجيب محفوظ, أورد المؤلف عبدالرحيم كمال مثالا على أن العُهر في العقل وليس في الجسد, فيجعل شهاوية تذهب للقرية لتحاول البحث عن عمل شريف لدى سيدة تبيع البيض والجبن, فيراودها ابن السيدة عن نفسها, وحين ترفض يقول لأمه إنها فتاة عاهرة وجاءت لتغريه بالذهاب إلى العشة من أجل المال, فتطردها.

تظل شهاوية بلا عمل ولا مصدر رزق إلى أن يأتيها الرجل الذي أحبه قلبها, فتشترط عليه أن يتزوجا, فيتزوجها متناسيا ماضيها صافحا عن خطاياها, وحين يعلم العمدة زواج أخيه من بائعة هوى, يقبض عليها ويدفنها حية, لتنتهي حياة شهاوية صارخة من القبر \”رضيت يا رب.. أنا راضية يارب.. رضيت بحكمك يارب\”

تضرب شهاوية مثلا في الصبر على قضاء الله والرضا بالمكتوب والتوبة الصادقة, تجعلنا ندرك أن رحمة الله أوسع وأبرح من أن يحصرها البشر ويحددوا من تشمله, وأن الطريق إلى الله ليس سهلا كما يظنون, بل محفوف بالشهوات.

\”طريق ربنا واعر قوي يا خواجة\”.

(4)

شابة مليحة من الريف, تسافر إلى القاهرة بحثا عن مصدر رزق.. لا تجد فرصة للعمل سوى أن تبيع جسدها مقابل المال.. نعم, صورة مُكررة لبائعة الهوى في جميع الأعمال الدرامية، لكن \”زينات اللي بتذوق البنات\” تختلف عن أي بائعة هوى قابلتها في حياتك!

لدي مشكلة خاصة مع السينارست مريم نعوم, فهي -كما كتبت في مقال سابق- قادرة على تكوين شخصيات مركبة, لا هي خيرة كل الخير ولا هي شريرة كل الشر, تتناول الطبيعة البشرية كما هي, بخيرها وشرها, مجرد أُناس يخطأون ويصيبون.

شكلت مريم نعوم شخصية زينات في مسلسل \”سجن النسا\” بشكل يجعلك تتعاطف معها رغم علمك بأنها بائعة هوى, منذ اللحظة الأولى التي تراها, وتسمع ضحكتها الرقيعة تُجلجل في ثنايا السجن, تعلم أن وراؤها حكاية أخرى, وجه آخر غير الذي تراه.

كلما خرجت زينات من السجن، تحاول أن تجد عملا, لكن لا تفلح, فما تلبث أن تعود لبيع الهوى, حتى تكتشف أنها مريضة بالفشل الكلوي, فتذهب إلى مستشفى حكومي من أجل الفحوصات والتحاليل اللازمة, وتتعرف على طبيبة شابة توهمها بإجراء عملية مجانية يساهم في نفقاتها فاعلو الخير, لتعود بعدها بصحة سليمة.

وبدلا من أن تُجري لها عملية تُساهم في شفائها, تسرق منها كليتها السليمة, لتعيش زينات بكلية واحدة معطوبة, فتواعد رجلا سرا وتطلب من صديقتها التبليغ عنها لتدخل السجن وتُعالج على حساب الدولة.

تموت زينات على سريرها في مستشفى سجن النسا بهدوء, وتختفي ضحكتها التي لطالما أسمعت عنابر بأكملها.

(5)

بعد أن نرى هذه النماذج, لا يسعنا إلا أن نتيقن أن الفن المصري قد ساهم بشكل كبير في تغيير صورة بائعة الهوى في أذهان الجمهور, و بالرغم من أن هذه الصورة مازلت مشوهة بعض الشئ, وبالرغم من أن العامة لازالوا ينظرون لها نظرة شفقة مصحوبة بتقزُز, بالرغم من أنها لا تفعل شيئا يختلف عما يفعله الرجل الذي يطلب خدماتها الجنسية, وبالرغم من أن القانون المصري لازال يعتبر الرجل في قضايا الآداب شاهدا، بينما بائعة الهوى جانية تستحق السجن , إلا إنني بعد أن شاهدت هذه الأعمال الفنية تمكن الأمل من قلبي, وتيقنت أن البشر سينظرون يوما ما إليهن بعين الرأفة في انتظار فناء هذه المهنة, خصوصا وأن أغلب بائعات الهوى مُستغلات جنسيا ومُجبرات على امتهان هذه المهنة, وهذا ما يحاول الفن المصري إبرازه حاليا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top