د. طلال فيصل يكتب: التجربة الألمانية (1)

ينظر لي الموظف الألماني بصرامة.. عيناه الزرقاوان الباردتان، وصوته المعدني المتجهم، وأنا ابذل مجهودا مضاعفا حتى لا اضحك.

الرجل مقتنع تماما أنني كنت على وشك الهرب من ألمانيا، إلى مصر! يا سيدي يهديك، يرضيك، الله يخليك، أهرب يه بس؟

بالنسبة له أنا شخص لا يرد على الهاتف ولا البريد منذ أسبوعين! وهذا في عرف الألمان كفر صراح، وستار مؤكد لجريمة يتم تدبيرها في الخفاء.

التعامل مع الألمان صعب، وبالنسبة لشخص مصري صميم أصيل لم يعتد وجود الدولة، لا بالسؤال ولا بالرعاية، فاهتمام الدولة بك وبغيابك أمر يصعب تفهمه. في بداية تجربتي الألمانية كانت المشكلة هي اللغة، أما وقد وتجاوزت مشكلة اللغة، فقد أدركت أننا نتحدث فعلا لغتين مختلفتين، كل شىء مختلف، الأفكار وتعريفها أصلا مختلف، والتفاهم يتطلب مني مجهودا مضاعفا، مرة بالفهم ومرة بالشرح، باعتياد أن الدولة كيان حاضر، ينبغي أن يتم تبليغها والرد على رسائلها والانضباط في مواعيدي معها. الدولة تمنحني حقوقي كاملة وينبغي لي أن احترمها.

كيف يمكن لمواطن مصري فهم هذه العجائب؟!

الدولة في مصر قديمة فعلا، ومستقرة تماما، لأنها غير موجودة؛ هي راسخة رسوخ العدم، بنيان قائم لا يقدم شيئا غير فعل الوجود. هي موجودة وخلاص! كان من الصعب جدا أن تنجح الثورة، لأن الثورة تتطلب كيانا فاسدا، تقوم بإصلاحه أو تقوم بإزالته، أما العدم، فكيف تتصرف معه. الدولة في مصر عدم.. عدم ظهرت له أمناء شرطة ومخبرين منتشرين في كل مكان.

كيف يمكن أن تنجح ثورة ضد العدم؟!

بعد حوار مطول مع الموظف، وترتيب الأوراق بشأن العمل الجديد الذي سأنتقل له – في ولاية أخرى وإتمام الدراسة بجامعة أخرى، يسألني عن كل شىء، الانتقال للبيت الجديد، إجراءات إنهاء العقد مع البيت القديم، إلخ إلخ، وحين يسألني عن موعد البدء في العمل الجديد أقول، أول الشهر، وبعد اعتياد اللسان عليها من جديد، أوشك أن اقول \”إن شاء الله\”، اقول بدلا منها – كمن يتدارك السقوط على أرض زلقة

– نعم، من أول الشهر، آمل ذلك.

ينظر لي بامتعاض، يسأل بعدم فهم

– لماذا \”آمل ذلك\” هل هناك شىء آخر لم يتم ترتيبه؟!

العقل الألماني لا يستوعب أن يكون الاستدراك مجردا لوجه الله، يظن أن هناك شيئا آخر ينبغي توضيحه. العقل الذي يستيقظ صباحا ليلحق بالباص في موعده الساعة السادسة وثلاثة وأربعين دقيقة يصعب عليه استيعاب جملة إن شاء الله.. إن شاء الله تقتضي شكل حياتنا، الباص يمكن ألا يأتي، أن يأتي وتظل عالقا ساعتين في شارع قصر العيني، أن تصل في عشر دقائق لأن شخصا ما يعبر بموكبه قبلك. ليس هناك ضمانات، والحياة لعبة غير عادلة يحكمها القضاء والقدر، ثم أن هناك آخرة، وحسابا بعد الموت، فلماذا نتعجل في هذه الحياة الدنيا، ولماذا ننسى أن كل شىء زائل.

لا أريد أن أكرر كلاما يائسا قيل أكثر من مرة، لكني أغادر مصر هذه المرة بانطباع مختلف، صرتُ أرى التناسق في فوضاها، وهذا مرعب! الدولة الغائبة عدم، أمناء الشرطة المتناثرون هنا وهناك حراس بائسون للاشىء، والمصريون يمضون واعين تماما بهذه الحقيقة، لذا فهم مغيّبون تماما، بكامل إرادتهم وإخلاصهم. الأفراد الذين يتحلقون حول القنبلة قبل انفجارها ليسوا مشهدا مضحكا، إنهم أبناء دولة قديمة يدركون تماما أنها انتهت الى اللاشىء، وإذا كان كل شىء بلا معنى، فلماذا تصير خطورة انفجار قنبلة في وجهي أمرا بالغ الأهمية إذن؟!

إنها حكمة المحكوم بالإعدام، المريض المصري الجميل، الذي كان حين يزورني في العيادة يبدأ شكواه بجملته البليغة عن إدراكه لموقفه: \”ياللا حسن الختام\”.

ياللا حسن الختام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top