استمرت الديانة المصرية القديمة فى الوجود والممارسة ما يقرب من أربعة آلاف سنة، مما يجعلها الديانة الأطول عمرا فى التاريخ المعروف، هذه الإستمرارية كان لها مقومات عديدة، أولها وأهمها الوحدة السياسية وسهولة النقل والمواصلات عن طريق نهر النيل بطول مصر، وكذلك حرص المصريين القدماء على نقل تقاليدهم ومعارفهم الدينية من جيل لآخر.
يطرح الكثير من الدارسين الغربيين نظريات مفادها أن الديانة المصرية القديمة لم تكن ذات شكل ثابت يمكن من خلاله القول بإنه كانت هناك ديانة، وإنما عبادات وطقوس متفرقة فى أنحاء البلاد، وآلهة محلية هنا وهناك.
واقع الحال أن الديانة المصرية القديمة حملت الكثير من مقومات الثبات والإستمرارية منذ عصور ما قبل الأسرات حتى العصر اليونانى-الرومانى آخر فترات مجد الحضارة المصرية القديمة، لكن الفخ الذى وقع ويقع فيه الكثير من الدارسين هو التعامل مع الحضارة المصرية القديمة بمنطق العصور الحديثة، بمعنى أنهم حين يدرسونها لا يدرسونها بروح عصرها وفكر أهلها، وإنما يبحثون عن كتاب مقدس واحد ووحيد، كما يبحثون عن طقوس تعبدية ثابتة لا تتغير، تماما كأديانهم التى ينتمون إليها ويعرفونها، وهذا للأسف هو ما يخلق فجوة كبيرة فى الفهم والتلقى على حد سواء.
قصتنا لليوم عن فترة زمنية لا تبدو مشجعة كثيرا لأن نتذكرها، لكنها العبرة والعظة هى ما يهمنى أن أتعلمه معكم الآن.. الزمن هو القرون الأولى بعد الميلاد.
دخلت المسيحية أرض مصر، وتحول المصريون عن ديانتهم القديمة ومجمع آلهتهم المتعددة، إلى الدين الجديد.
قد نخطىء فى تحليلنا إن ظننا أن المسيحية –أو أى دين آخر– نشأت كتلة واحدة مصمتة ونهائية، الحقيقة أن هذه الفكرة تحديدا من الأفكار الخيالية أو المثالية بشكل زائد، لقد كانت هناك أكثر من مسيحية، وأكثر من فهم لبشارة السيد المسيح وتلامذته، اكتسب كل منها شكله وفهمه بحسب فهم الناس -آنذاك- للرسالة والمغزى، وقد قطعت المسيحية تحديدا شوطا طويلا من عمر الزمن حتى تصل إلينا بشكلها الحالى، الذى هو فى التحليل الأخير غير متفق عليه بشكل نهائى أيضا، فلدينا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وهى كنيسة عريقة، كما لدينا الكنيسة الكاثوليكية وهى أيضا كنيسة عريقة، والبروتستانتية إلخ.
فى تلك القرون الأولى والبعيدة، كان هناك دائما الحاجة لإلغاء القديم \”المخالف\” لصالح الجديد \”الصحيح\”، وهى للأمانة عادة قديمة جدا لم يختص بها المسيحيون الأوائل وحدهم، فقد فعلها من قبل أجدادهم المصريون القدماء -باختلاف طفيف- فيما يخص الملك المهرطق إخناتون، حتى إنهم محوا اسمه من سجلات الملوك، ولم يكتفوا بذلك، بل لم يسموه على الإطلاق، واكتفوا بقولهم حين يريدون الإشارة إليه بـ\”ذلك الذى فى العمارنة\”، تماما كما نقول نحن اليوم عن شخص نكرهه \”اللى ما يتسمى\”، ومنبع هذه الجملة أن المصريين القدماء قد آمنوا بأن من ليس له اسم ولا وجه، ليست له حياة أبدية، وبالتالى فهم بتدمير وجوه إخناتون على النقوش ومحو اسمه، لا يلعنونه فقط، وإنما يحرمونه من الحياة الأبدية كذلك، ولأن الشىء بالشىء يذكر، فقد استمر هذا التقليد العتيد الخاص بتدمير أو تشويه السابقين بعد دخول الإسلام مصر.
قد تبدو جملة \”التاريخ يعيد نفسه\” كليشيها قديما يصلح للإستهلاك التلفزيونى بصفتك خبيرا إستراتجييا -وهم أكثر من الهم ع القلب هذه الأيام- إلا أن تلك الجمله حقيقية للغاية، وبالأخص فى حالتنا هذه، فقد قام المسيحيون الأوائل بتدمير المعابد المصرية القديمة، أو نسبة كبيرة منها على الأقل، إما عن طريق الهدم والتكسير والحرق، أو التشويه المتعمد على أقصى تقدير، وتتركز أكثر حالات التشويه سوءا فى معبدى الإله حورس بإدفو، ومعبد الإلهة إيزيس بجزيرة فيلة.
انطلق هؤلاء المؤمنين المتعصبين لتخريب المعابد التى كانوا يتعبدون فيها يوما ما ويقدمون القرابين والأضحيات لآلهتهم المحلية من خلالها، وهو تصرف مفهوم تماما فى سياقه، إلا أن اللافت للنظر هنا ليس فقط الصلبان التى حاولوا نحتها ونحتوا بعضا منها بالفعل على جدران تلك المعابد وفوق نقوشها المقدسة، وإنما اختيارهم للنقوش التى قاموا بتدميرها، لقد دمروا وجوه الآلهة والمعبودات تحديدا، وفى أحيان أخرى أسمائها وألقابها، وهو اختيار يدل على أن إيمانهم الجديد لم يتغلغل بعد فى قلوبهم، فهم مازلوا يشعرون بقوة روحية وهيمنة نفسية لهذه الآلهة عليهم وعلى وجودهم، ولذا فقد قاموا بتدمير وجوهها واسمائها حتى يحرموها –وفقا لإعتقادهم المصرى القديم والراسخ فى أذهانهم– من الحياة الأبدية ومن الخلود، ولا عقاب أقسى ولا أوقع فى مصر القديمة من أن تحرم كائنا من الحياة الأبدية، فإنك بذلك لم تبدد جسده أو وجوده المادى فقط، وإنما نسفت وجوده الروحى كذلك، وحولته إلى فراغ أو عدم بلا أى معنى أو شكل.
هذا انتقام مريع رغم بساطته الظاهرية إلا أنه قاسٍ للغاية.
لم يكن هؤلاء مسيحين بقدر ما كانوا مؤمنين متحمسين، يتخبطون بين هيمنة روحية لديانة ومعتقدات عاشت معهم ومع أبائهم آلاف السنين، وبين بشارة جديدة جاءتهم من الشرق، تحمل معها روحا جديدة ورؤية مغايرة للعالم، لقد سقطوا فى حيرة شديدة، أجبرتهم على التصرف على هذا النحو الغريب الذى يمكن فهمه، ولا يجب تبريره بأى حال من الأحوال.
لم يكن المسيحيون الأوائل أبرياء تماما ولا ملائكة بجناحات بيضاء يمشون على الأرض، بل كانوا بشرا عاديين، معرضين لكل أنواع إساءة الفهم والتعصب والعنف، وكلها صفات لا يجب أن نخجل منها أو نواريها التراب بحجة النقاء الكريستالى لأجدادنا الأوائل، سواء كانوا مسيحين أو مسلمين، فالتاريخ عبارة عن مسلسل طويل وبلا نهاية من التصرفات البشرية المجنونة والعبقرية على حد سواء.