أن تتحدث عن الموتى، يعنى أنك تعيدهم إلى الحياة. وحديثنا اليوم عن موتى يبعد بيننا وبينهم ما يقارب العشرة آلاف عام.
لطالما كانت مصر القديمة محط أنظار العالم قديمه وحديثه، واجتذبت من الهواة والدارسين والمحبين، بل وحتى اللصوص الكثير.. إنه أمر أشبه بالنداهة التى اعتدتنا على سماع حكايات اغوائها للرجال، وللشباب منهم على وجه الخصوص.
فى اللحظة التى تبدأ فيها قراءة ودراسة هذا التاريخ البعيد والممتد، سرعان ما تشعر أنك تبدأ حياة مختلفة كليا لروحك وعقلك، فيتوقف إدراكك للعالم من حولك، إلا من خلال هذه التجربة الروحية الغنية.
ما نعرفه عن مصر القديمة – رغم كثرته – هو قليل جدا، حتى إن هناك مثلا مشهورا بين أوساط علماء المصريات يقول: مصر القديمة كلما عرفنا عنها، كلما اكتشفنا أننا لا نعرف شيئا.
إحدى هذه الأشياء الكثيرة التى لا نعرفها، والتى سأحاول بدورى معرفتها معكم اليوم، هى الحياة الجنسية للمصريين القدماء، بالتأكيد لا تخلو حياة إنسان من الجنس، اللهم إلا إذا كان راهبا متبتلاً، وليس ذلك موضوعنا لليوم، إنما تفرد المصريون القدماء بكونهم قد سجلوا لنا جزءا يسيرا من حياتهم الزاخرة والغنية، أعنى العمل الأشهر فى توثيق هذا الموضوع وهو بردية مصرية قديمة تعود للعام 1150 قبل الميلاد تقريبا، وتؤرخ لحقبة الرعامسة، (أى الملوك الذين تسموا باسم رع مسيس أو رمسيس) وهى محفوظة بمتحف مدينة تورين بإيطاليا، تم اكتشافها بمنطقة \”دير المدينة\” وادى الملوك، طيبة القديمة، أو مدينة الأقصر الحالية، فى أوائل القرن التاسع عشر، حوالى العالم 1814 إلى 1821 ميلاديا، على يد القنصل الفرنسى وتاجر الآثار برناردينو دروفتى، ومن ثم تم بيعها إلى الملك تشارلز فليكس حاكم مملكة الشمال الإيطالى حيئنذ، ومؤسس متحف تورين للمصريات فى العام 1824.
تقدر مقاسات البردية باثنين ونصف متر، وعرض خمسة وعشرين سم. مقسمة إلى جزأين، أحدهما يحمل رسوما لـ 12 وضعا جنسيا، فى جزأها الأول توجد حيوانات تقوم بمهام بشرية مختلفة، وهو ما يوصف بالجزء الكوميدى من البردية، أما الجزء الخاص بالأوضاع الجنسية البشرية بها، فهو يشكل حوالى ثلثى حجم البردية كلها، علينا أن نتذكر كونها مدمرة فى أجزاء منها، لظروف عدة، منها سوء الحفظ وحتى سوء التعامل معها حال اكتشافها فى أوائل القرن التاسع عشر، لكون الوسائل العلمية اللازمة للحفظ والدراسة لم تكن متوفرة حينئذاك، وهو حديث ذو شجون، فقد دُمرت الكثير من الآثار والبرديات المصرية القديمة نتيجة إما جشع المستكشفين ولصوص الآثار، وإما لجهلهم.
\”تعال من ورائى بُحبِك، تعال، آه أيها المُشمِس، لقد وجدت قلبى بالفعل، إنه لشىء ممتع.\”
الاقتباس القصير أعلاه إحدى اقتباسات كثيرة مدونة على البردية. وإليكم صورة البردية كما هى محفوظة بالمتحف.
وفيما يسمى فى علم الآثار بإعادة البناء أو المحاكاة، قام بعض علماء المصريات بإعادة محاكاة الرسومات المنقوشة على البردية لتخرج لنا بالشكل التالى:
هذا فيما يختص بالجزء البشري من البردية، أما فى الجزء الذى احتوى حيوانات تقوم بمهام بشرية، فكانت نتيجة إعادة بنائه كالتالى:
لا تعود أهمية بردية تورين فقط إلى كونها وثيقة أصلية وقديمة يمتد عمرها إلى آلالاف السنين، بل لكونها أول دليل إباحى مكتوب يصل لنا من العالم القديم بأوضاع جنسية متعددة من التى نعرفها اليوم، بل وحتى بأوضاع يُستعمل فيها ألعاب جنسية مُصنعة يدويا كمخروطات خشبية تجلس فوق إحدى سنونها الرفيعة امرأة، لقد وجدت بردية تورين قبل الأدبيات المشهورة فى الإباحية كـ الكاماسوترا وغيرها، والتى تعتبر مقارنة ببردية تورين، هوامش صغيرة على متن يعود لآلاف السنين، سجلتها أمة تعتبر أولى الأمم المتحضرة فى العالم أجمع، إذ لم يكن الجنس ممارسة مشينة أو مخجلة بالنسبة للمصريين القدماء، على العكس، فقد كان ممارسة مُبجلة وفى أحيان أخرى مقدسة حتى، ربما قد يلفت انتباه الكثير منا ضخامة الأعضاء الجنسية الذكورية فى البردية، وهو بحق أمر مثير للانتباه، فقد تعود الإنسان منذ أن سكن الأرض وأسس لنفسه مدنية وحضارة أن يبالغ فى تخيلاته، بل ويطلق لها العنان، ربما ليعوض نقصا ما وربما أيضا ليؤكد لنفسه قدرته على الوصول بالأشياء إلى اقصاها، لا توجد إجابات يقينية هنا، وإنما هو التخمين والحدس لا غير.
لم يٌعرف على وجه التحديد الغرض الأصلى من البردية، لكن كونها وجدت فى مقابر أحد النبلاء، يرجح أنها كانت ذات أغراض جنائزية أو مختصة بالحياة الأخرى كما آمن بها المصريون القدماء.
ماتزال أرض مصر تخفى الكثير من الكنوز والآثار العظيمة التى لم يُكشف عنها النقاب بعد، وقد عبث الأجانب فى آثارنا بطول البلاد وعرضها، اللهم إلا قلة نادرة منهم، وعليه فدراسة هذه الحضارة المليئة بالأسرار الخفية والعظيمة، واجب يحتمه علينا وجودنا على هذه الأرض، ولا أقول إنتماءنا الجينى إلى المصريين القدماء، لأن فكرة نقاء عرق ما، هى فرة يجب التعامل معها على سبيل الهتلرية أو فى أحسن الأحوال الخرف.